حكاية أحمدين في ماسبيرو 1/2

 مقال: محمد يحيى 




في الحادي عشر من يناير عام 1964، صعد أحمد سعيد -مدير إذاعة صوت العرب- درجات سلم مبنى ماسبيرو بسرعة وصولًا إلى الطابق الخاص بإذاعة صوت العرب، لبث خبر عاجل عن مذبحة راح ضحيتها آلاف العرب، الجانى هذه المرة لم تكن قوى الاستعمار القديم، بريطانيا أو فرنسا، ولم يكن مسرح أحداثها في فلسطين التاريخية ولا في اليمن التي كانت الحرب فيها مستعرة بمشاركة مصرية لا تقل عن عشرات الآلاف من الجنود. وقعت تلك المذبحة والتي فاق عدد ضحاياها 20 ألف عربي في جزيرة تبعد آلاف الأميال عن القاهرة، جزيرة لم يكن اسمها مألوفًا حينها على أذن المستمع العربي، جزيرة زنجبار.

من المؤكد أن نبأ ثورة زنجبار عام 1964 نزل كالصاعقة على أحمد سعيد. ليس فقط لأن أعداد المذبحة فاقت كل الخسائر البشرية السابقة في معارك التحرير أو الحروب ضد الاستعمار باستثناء الجزائر، ولكن أيضًا لأن زنجبار كانت حتى وقت قريب مركزًا للنفوذ العربي والمصري تحديدًا في الشرق الأفريقي. فقد كانت العلاقات بين العرب عمومًا ومصر خصوصًا بالنخب السياسية العربية هناك علاقة متميزة جدًا، خاصة الحزب الوطني الزنجباري. لدرجة دعت ممثل هذا الحزب في القاهرة أن يطلب من محمد فائق رجل عبد الناصر في الشئون الأفريقية أن تتدخل مصر عسكريًا من خلال قوتها في اليمن لكبح جماح "الانقلابيين" وهو ما لم يقبله فائق متحججًا بصعوبة الموقف. كانت هذه التوقع قد بنى على علاقة خاصة بين علي محسن البرواني مؤسس الحزب مع كل من عبد الناصر وفائق. تلك العلاقة التي بدأت منذ باكورة عهد الثورة بتأسيس إذاعة باللغة السواحلية وتعيين مذيعين بها من زنجبار تحديدًا، بالإضافة إلى تأسيس ما سمى ببيت شرق أفريقيا الذي استضاف العديد من الطلاب الزنجباريين المبتعثين وعائلاتهم، وصولًا إلى البعثات الأزهرية إلى زنجبار. كان هذا التواصل الوثيق بين القاهرة والحزب الوطنى الزنجبارى وراء إرسال ناصر محمد فائق على عجل إلى زنجبار ليطمئن على أن صديقه علي محسن على قيد الحياة، وأن يطلب إيقاف المذبحة بحق السكان العرب مقابل اعتراف مصر بالنظام الجديد، بل وتدعيمه بالسلاح والخبراء إذا تطلب الأمر.₁

ربما لم يعلم أحمد سعيد كل هذه التفاصيل، ولكنه بالتأكيد كان يعرف عمق هذه العلاقة، ليس فقط لكونه جزءًا من دهاليز سلطة يونيو وصناعة القرار فيها بل لسبب أبسط من ذلك، ألا وهو وجود مجموعة من أهم الزنجباريين على بعد خطوات من مكتبه في إذاعة صوت العرب. لابد أن أحمد سعيد التقى بمذيعي تلك الإذاعة التي بدأت بعد عام فقط من صوت العرب في 1954، وقابل أهم ممثليها من أمثال شريفة اللمكى وسليمان مالك وسعيد خليفة وأكثرهم تأثيرًا وجدلًا على الإطلاق أحمد رشاد. لم يكن أحمد رشاد شخصية عادية في إحدى الإذاعات الموجهة التي أنشأها نظام ناصر، والتي بلغ عددها زهاء الثلاثين، وكانت تبث لكل أركان الكرة الأرضية فعليًا. رغم كثرة تلك الإذاعات وتأثيرها يمكن الزعم بأن الإذاعة السواحيلية كانت أحد أهمها على الإطلاق في الانتشار والتأثير وصناعة الأحداث. كان أحمد رشاد هو نجم تلك الإذاعة بلا منازع وكان صوته وطريقته وتعليقاته تنتشر بسرعة كما النار في الهشيم من سواحل جزيرة بمبا الزنجبارية في المحيط الهندي إلى القبائل المتحدثة بالسواحيلية في غابات الكونغو مرورًا بكينيا وتنزانيا وأوغندا ومالاوي. لذا من المرجح أنهما لم يكونا مجرد زملاء مهنة في مكان واحد بل كانا مدركين أن صوت كل منهما كان بمثابة أحد أهم الأسلحة التي تملكها مصر وتصيغ بيها سياستها في أهم دائرتين من دوائر عبد الناصر الثلاثة ألا وهما العالم العربي والأفريقي.

ربما لم يدرك رفاق الميكروفون لحظتها أن لهم دورًا في حدوث تلك المذبحة المروعة، وأن ما حدث في تلك البقعة من العالم هو بشكل أو بآخر نتيجة ما زرعته الإذاعة بقسميها العربي والسواحيلي، وأن حصاده المر في النهاية كان أرواح الآلاف. ربما إدخر القدر لأحمد سعيد ثلاث سنوات أخرى حتى يونيو 1967 حتى يدرك الثمن الحقيقي لهذا الأسلوب والطريقة الإعلامية  التي ابتدعها وكان أبًا روحيًا لها، ولكن من المؤكد أن أحمد رشاد في تلك الليلة الباردة الجهنمية من يناير 1964 أدرك أنه ساهم بقدر كبير في سفك دماء الكثيرين. لذا من المهم الآن العودة بضع سنين إلى الوراء لنشهد بداية هذه العلاقة الخاصة بين الأحمدين في ماسبيرو وكيف أدت إلى تلك اللحظة.






صورة لأحمد سعيد



كانت الذكرى الأولى للثورة هي موعد انطلاق صوت العرب في 23 يوليو 1953. ربما لم يدر بخلد ناصر في تلك اللحظة ما سيكون لهذه المحطة الإذاعية من شأن، ولكن بالتأكيد كان يدرك أهمية تلك المنصة في الحشد والتأييد لمشروع لم يتبلور بعد. كانت مصر في تلك اللحظة تمسك العصا من المنتصف في علاقتها بالغرب، تفاوض بريطانيا من أجل الجلاء، تفاوض أمريكا من أجل اتفاقيات اقتصادية، وتحاول فهم موقعها الجديد في الواقع العربي المعقد. إلا أنه لن تمضي سنين كثر حتى تحسم مصر انحيازها وموقفها سواء من الغرب أو من سياقها العربي وتكون إذاعة صوت العرب أحد أماكن صنع تلك السياسات وليس مجرد بوق لها. لم يمضي الكثير من الوقت حتى بدأت صوت العرب في صياغة خطاب فريد للغاية من ناحية الشكل والمضمون والمرادفات المستخدمة. فقد أسست صوت العرب لما يعرف بالوعي الجمعي العربي لأول مرة، وجعلت التحرر من الاستعمار والوحدة العربية على قائمة أولوياتها. وهي أهداف لم تكن جديدة في ذلك الوقت، إنما كانت صوت العرب ولغتها هي التي جعلت الخيال الجمعي لقاطني الدول العربية يؤمن أنه موجود وأنهم يتشاركون نفس الأولويات. أما بالنسبة للأسلوب واللغة فكانت هنا الإضافة الكبرى لصوت العرب. على الرغم من كون الإذاعة المصرية منذ تمصيرها في أواخر الأربعينات قد هاجمت بشكل أو بآخر الإنجليز، فإن إذاعة صوت العرب ذهبت بذلك الاتجاه إلى الحد بعيد. ببساطة قسمت الدول لحلفاء وأعداء وكان الحكم على الأمور بمنطق الأبيض والأسود وأخيرًا بدأت إذاعة صوت العرب أسلوب الهجوم على الأفراد بشخصهم والتحريض عليهم. هذا الأسلوب كان جديدًا في تلك اللحظة ومختلفًا بشكل كبير عن إذاعات "الأفندية" السابقة للثورة في كافة الأقطار العربية. كانت بساطة الأسلوب وبلاغة أحمد سعيد والتقسيم المختزل للأشخاص والقضايا ما بين صديق وحليف هو ما جذب جمهور مصريًا وعربيًا عاش معظم حياته تحت نير الاستعمار وسيادة الرجل الأبيض. لم تكن صوت العرب غريبة عن عصرها بل جسدت روح العصر لذا كانت النموذج الذي ألهم العديد من الإذاعات في تلك الفترة بمختلف الدول العربية والأفريقية، وكان أحمد سعيد هو القدوة لكل إذاعي يحلم بصناعة التاريخ والمجد، وبالتأكيد أن من بين هؤلاء أحمد رشاد.

كأحمد سعيد، بدأ أحمد رشاد حياته العملية كموظف في الخدمة العمومية. فقد مكنته صلات عائلته بسلطان زنجبار (العمانى الأصل) من الحصول على وظيفة مفتش صحة خلال الثلاثينات من القرن الماضي. لم يمر وقت طويل قبل أن يقرر السفر إلى عمان عام 1973، ومنها إلى الهند. كانت الهند محطة مهمة للغاية في حياة أحمد رشاد، فقد كانت الهند حينها درة التاج البريطاني، وعاصمة الثقافة في مجتمع المحيط الهندي الذي يضم زنجبار وعمان وعدن وغيرها من المستعمرات البريطانية في تلك المرحلة. هناك تعرف على آراء محمد علي جناح مؤسس دولة باكستان، وخاصة فيما يتعلق بالرابطة الإسلامية والإسلام كهوية جامعة لأعراق مختلفة، وهي فكرة سيكون لها تأثير عميق عليه فيما بعد. كذلك بدأ في مومباي مشواره كلاعب كرة محترف، ما جعله يدرك العلاقة الوجودية بين الرياضة والقومية وأثر كل منهما على الآخر. بعد أن مكث في الهند فترة تقارب العشر سنوات، وكان شاهدًا على حركة غاندي المناهضة للاستعمار في أوجها وكذلك بداية تشكل الدولة القومية في الهند وباكستان، عاد إلى زنجبار في عام 1947. كان لهذه السنوات العشر أثرٌ كبيرٌ في تحول الموظف أحمد رشاد إلى مذيع وكاتب ثورى ولاعب كرة مغامر. وبعودته إلى زنجبار كان أحمد رشاد نجم مجتمع، وأصبح مذيعًا في الإذاعة الرسمية الرئيسية (صوت أجنجو) ونجم كرة قدم في النادي المحلي (ميلنديا سبورت)، وأخيرًا جزءًا من فريق تحرير الجريدة الراديكالية المضادة للاستعمار (موانجزى). خلال تلك السنوات في نهاية الأربعينات، وتصاعد المد الثوري والقومي تعرف على علي محسن البرواني وحزب زنجبار القومي وأصبح أحد كوادر ذلك الحزب في زنجبار، ولاحقًا في القاهرة حيث بدأ عمله في 27 فبراير 1955. ²




صورة أحمد رشاد من تدوينة نشرت بتاريخ 27 ابريل 2019 ³


قبل اليوم الأول لأحمد رشاد في ماسبيرو، وأثناء أول أسبوع له القاهرة، كان أحمد سعيد على موعد مع أولى معاركه الكبرى، ألا وهي حلف بغداد. فلقد تم إعلان الحلف في يوم 24 فبراير 1955 وضم في عضويته العراق وتركيا في البداية ثم باكستان وإيران والمملكة المتحدة وذلك لمواجهة الخطر الشيوعي. لم يكن عبد الناصر ينظر بعين الرضا والارتياح أبدًا لهذا الحلف، وأحس أنه باب خلفي لبريطانيا وأمريكا لفرض السيطرة على الشرق الأوسط. لم يكد إعلان الحلف يحدث حتى انبرى أحمد سعيد ومن ورائه الآلة الإعلامية المصرية المسموعة والمرئية في تشويه الدول المنضمة للحلف وزعمائها وعلى رأسهم نوري السعيد رئيس وزراء العراق، ووصمهم بالخيانة والعمالة. كانت تلك أهم لحظات الاستقطاب في الخمسينات وبداية الحروب الإذاعية. منذ يومه الأول كان أحمد رشاد واعيًا بأسلوب أحمد سعيد وطريقته الفريدة في التعليق على الأخبار وصياغتها للمستمعين، وتكوين رأي عام عربي لأول مرة خاصة بين الأميين وأنصاف المتعلمين. فإذا كانت الهند هي لحظة تكون الفكرة القومية والتعرف على الحركات المناهضة للاستعمار عن قرب لأحمد رشاد، فإن القاهرة كانت بمثابة المختبر العملي الذي تعلم وأتقن فيه أدوات المعركة وأصبح سيدها بلا منازع في مكانه بالإذاعة السواحيلية بالقاهرة.


قائمة ببرامج راديو صوت العرب في مجلة الإذاعة والتلفزيون، أرشيف دار الكتب، القاهرة.


كانت الإذاعة السواحيلية التي بدأت في الذكرى الثانية لثورة يوليو باكورة الإذاعات الموجهة التي أنشأها نظام ناصر تباعًا خلال الخمسينات والستينات، ليصل برسالته إلى أركان الدنيا الأربع، بلغ عدد تلك الإذاعات في النهاية 33 محطة إذاعية وامتدت إلى ما يقرب من 750 ساعة بث إذاعي، لتصنف كثاني أكبر عدد ساعات بعد الولايات المتحدة. بدأت الإذاعة السواحيلية باستهداف مناطق في الشرق الأفريقي، كزنجبار وتنجانيقا وكينيا، التي كانت تشهد أعنف ثوراتها ضد المستعمر، ثورة (الماو الماو). رغم ذلك، لم تكن انطلاقتها قوية إلى حد كبير حتى التحق بها أحمد رشاد بعد أشهر. فمنذ الشهور الأولى لعمله أصبحت تلك الإذاعة المفضلة للعديد من السكان العرب والأفارقة، خاصة في زنجبار والساحل العربي لكينيا. وكانت أحد أهم القضايا  التي تصدى لها أحمد رشاد هى قضية ثوار (الماو الماو) مما عزز هويتها كإذاعة مضادة للاستعمار، تسعى لدعم التحرر الوطني بكافة أشكاله. بعد عدة أشهر أخذت الإذاعة في الانتشار والتغلغل في أوساط المجتمع متعدد الأعراق في زنجبار، حتى وصفت بأنها أكثر الإذاعات تأثيرًا على يد السلطات الإنجليزية.




قائمة ببرامج راديو صوت العرب في مجلة الإذاعة والتلفزيون، أرشيف دار الكتب، القاهرة.



كتب ضابط استعماري: "دلهي، مع ميلها القوي لمناهضة الاستعمار، لديها مستمعين، ولكن أكثر أجهزة الراديو الأجنبية شعبية هي تلك التي في القاهرة: ليس فقط لأنها معادية للاستعمار ومعادية للبريطانيين ومعادية للغرب، ولكن لأن عرضها شديد اللهجة، قاطع ولا يحاول أن يكون مقبولًا."⁴

لم تكن الأحداث في منطقة الشرق الأفريقي فقط هي التي مهدت المكانة التي احتلتها تلك الإذاعة. لأن مصر، والقاهرة تحديدًا أصبحا محطة مهمة من محطات مناهضة الاستعمار والتضامن الأفريقي الآسيوي بسبب حدثين رئيسيين، مؤتمر باندونج وحرب السويس. فقد مثل مؤتمر باندونج الذي عقد في أبريل من تلك السنة البداية الحقيقية لظهور ناصر على المسرح الدولي، وتبلور فكرة التضامن الأفريقي الآسيوى كساسية خارجية مصرية. ربما كان الفشل في إيقاف حلف بغداد أيضًا أحد الدوافع  التي جعلت ناصر يدرك أن القِبلة ربما تكون جنوبًا وليس شرقًا كما كان يعتقد. فقد بدأت مصر بعد باندونج مشروعًا تاريخيًا امتد حتى السبعينات لمناهضة الاستعمار على أساس التضامن بين شعوب العالم الثالث. ربما كان النيل أيضًا أحد أهم الأسباب، لأن دول القرن الأفريقي ودول شرق أفريقيا وصولًا إلى أوغندا تمثل حوض النيل، الذي هو شريان الحياة لمصر. لذا لم يكن هناك بدٌ من محاولة خلق مجال تأثير في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة لمصر⁵. أخيرًا كان الوجود العربي في زنجبار والساحل الكيني أحد الأسباب المشجعة لمصر لاستكشاف تلك المنطقة كمنطقة نفوذ خاصة بعد عدة تقارير عن شعبية إذاعة (صوت العرب) وسط المجتمعات العربية في الساحل الأفريقي. فقد سعى العرب في الساحل الكيني للاستقلال عن كينيا والانضمام إلى زنجبار، مستغلين معاهدة قديمة بين بريطانيا وسلطان زنجبار تعترف بالسيادة الاسمية له على الشريط الساحلى. كان دعم صوت العرب لهذه المبادرة قويًا جدًا مما سبب انزعاج شديد للبريطانيين وأصدرت المخابرات الإنجليزية في تلك الفترة تقريرًا حول مدى شيوع تأثير صوت العرب حيث


اختتمت لجنة المخابرات في المستعمرة: "يستمع العرب بحماس لإذاعة القاهرة ويفضلونها على إذاعة بي بي سي ونيروبي ومومباسا (Sauti ya Mvita). إنها أكبر قوة لتشجيع القومية والاتجاهات التخريبية. أحيانًا ما تكون عمليات البث من هذه المحطة ضارية ودائمًا ما تكون معادية للبريطانيين. إنها تلقي الضوء على أي قضية محلية قد تحرج البريطانيين، أو تتيح فرصة لإعلان قضية القومية العربية؛ مثال حديث هو البث حول سيادة الشريط الساحلي بعد تصريحات مكاوي حول الحاجة إلى مراجعة معاهدة 1895."⁶

وصل هذا التأثير إلى أوجه في عام 1956، إبان العدوان الثلاثي على مصر. فقد نقلت إذاعة صوت العرب الشعور الثوري في مصر في تلك اللحظة إلى السكان العرب في الساحل الأفريقي. ووصل التأُثير إلى حد الدعاء لمصر في المساجد في مومباسا وجمع التبرعات وإرسالها للأشقاء المصريين. كانت الإذاعة السواحيلية جزءًا أيضًا من تلك اللحظة التاريخية. يحكي أحمد رجب أحد سكان زنجبار في 1956، ومذيع لخدمة السواحيلية في بي بي سي فيما بعد كيف كانت الشعارات التي يطلقها أحمد رشاد تكتب على حوائط الجدران وتردد في الأسواق حتى وإن كانت جديدة على اللغة السواحلية مثل شعار "يسقط ايدن". كان العدوان الثلاثي على مصر لحظة ميلاد جديدة لهويتها،كرمز لمقاومة وهزيمة الاستعمار وكذلك للإذاعة، كأحد أهم مواقع صناعة الأحداث والتأثير وحشد الجماهير مع أو ضد قضايا معينة، وهو الدور الذي ستلعبه بجدارة لعقد قادم على الأقل. أصبحت مصر بعد العدوان الثلاثى القبلة لحركات التحرر عمومًا والأفريقية خاصة.



العدد الأول من مجلة "نهضة أفريقية"، الصادرة عن الجمعية الأفريقية في عام 1957، الصفحة 64.



فقد وصف أوجينجا أودينجا أحد زعماء الثورة الكينية ذلك التأثير قائلًا:
"كانت المغامرة الفاشلة في السويس عام 1956. . هي التي وحدت كل أفريقيا، وأفريقيا مع آسيا والعالم العربي، وأعطت دفعة كبيرة إلى الاستقلال الوطني. . . لم تكن إفريقيا كما كانت بعد السويس"⁷

أدركت الدوائر البريطانية التأثير الهائل لغزواتهم الفاشلة خلال العدوان الثلاثي على معنويات الشعوب المستعمرة خاصة في أفريقيا فقد اعترف أحد أهم أعضاء الإدارة الكولونيالية في تنزانيا بذلك:

علق راندال سادلير احد ظباط المخابرات البريطانية فى تنزانيا: "شعرت في ذلك الوقت بالتأكيد أن الأمور لم تعد كما كانت سابقًا، ويمكن للمرء أن يشعر بتغيير واضح في مزاج الناس في دار السلام. لقد بدأوا يدركون أن أسيادهم الإمبراطوريين السابقين ضعفاء"⁸

خرجت مصر وناصر من تلك الحرب منتصرين بغض النظر عن أى حسابات عسكرية. وأصبحت القاهرة المقر الأهم لنشاط حركات التحرر الأفريقية، و التي وصل عدد مكاتبها في القاهرة في بداية الستينات إلى 15 مكتبًا على الأقل تحتضنهم الجمعية الأفريقية في الزمالك ومخصص لكل منهم دعم مادي سخي ومحطة إذاعية تبث من القاهرة. وكانت صوت العرب في موضع القلب من ذلك الانتصار، خاصة بعد دورها وتضحياتها في تلك اللحظة وضرب مقرها واستشهاد مهندسيها.



العدد الثاني عشر من مجلة "نهضة أفريقية"، الصادرة عن الجمعية الأفريقية في عام 1958.


هيأ المناخ العام في القاهرة بعد حرب السويس وإقامة مؤتمر الشعوب الآسيوية الأفريقية في فبراير 1957 وغيرها من الأحداث، كثورة كينيا والجزائر والوحدة بين مصر وسوريا أن تصبح الإذاعة ومذيعيها في مركز الحدث وليس مجرد معلن له. ففي تلك الفترة وصلت الإذاعة المصرية بكل فروعها إلى قمة مجدها وأصبح مذيعيها نجومًا وصفوة وصانعي قرار سواء في القسم العربي أو في الأقسام الأخرى. و إذا تركنا الأثير وانتقلنا إلى أرض الواقع، فإن وجود هذا العدد من حركات التحرر الأفريقية في مصر، والمناخ العام المؤيد للحرية والاستقلال (بتعريفها المقتصر على التحرر من الاستعمار)، وعقد العديد من التجمعات الثورية فلابد أن أحمد رشاد وأحمد سعيد قد أتيحت لهما العديد من الفرص للنقاش والحديث. فكونهما يتقنان اللغة العربية والإنجليزية، وكون أحمد رشاد نصف عربي ومعايش لحلم الوطن الاكبر، وأحمد سعيد صوت هذا الحلم فلابد أن تلك الأحاديث كانت على قدر كبير من الأهمية خاصة لأحمد رشاد. سواء تبادلا الأحاديث في استراحة ماسبيرو أو الجمعية الأفريقية بالزمالك أو ربما في أحد شقق الأصدقاء المشتركين من النخبة السياسية أو الثقافية آنذاك، فإنه من المرجح أن الأحاديث التي جرت في قاهرة الخمسينات كانت مزيجًا من الإحساس بالأهمية والمسئولية لدور كل منهما والفخر بما حققاه حتى الآن على عدة أصعدة. من المؤكد أيضًا أن أحمد سعيد فى تلك الفترة كان بمثابة الأستاذ الذي يصنع المجد العام والشخصي ويجسد الحلم بالنسبة لكثيرين من إذاعيي تلك المرحلة. لذا فإن زميله في الإذاعة السواحيلية كان يضبط بوصلته بهذا الاتجاه يومًا بعد يوم حتى يصل إلى ما حققه أستاذه وربما أكثر . حلم كان ربما يجب أن يكون حذرًا وهو يتمناه لأنه سيتحقق أقرب مما كان يتصور.


⁴ J.A.K. Leslie, A Survey of Dar es Salaam (London: Oxford University
Press, 1963), 199.
Tareq Y. Ismael, The U.A.R. in Africa: Egypt’s Policy under Nasser (Evanston: Northwestern University Press, 1971).
Ajuma Oginga Odinga, Not Yet Uhuru: The Autobiography of Oginga Odinga (New York: Hill and Wang, 1967), 175.
Randal Sadleir, Tanzania: Journey to Republic (New York: St. Martin’s
Press, 1999).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Comments