العِرْق كصنعة اجتماعية

مقال: قصي همرور







في كتابات سابقة ذكرتُ أن مفهوم العرق “غير علمي” في وصف البشر، وأن البشر ليست بينهم أعراق بالمعنى البيولوجي، لكن هنالك ما يسمى بالعرقنة (racialization) وفقها يتم تصنيف الناس “عرقيًا” كتصنيف هلامي لا يستند على أسس علمية وإنما أسس سلطوية، لأن العنصرية أساسًا مطية سلطوية (أي استعلاء قهري يبرر الاستئثار بنصيب غير عادل من السلطة والثروة على حساب الآخرين). هذا التصريح أثار ردود فعل كثيرة، من موافقين ومن معارضين. والمعارضون اعترضوا عليه من بعض الوجوه، أحدها أن الأعراق حقيقة واضحة للناس ولا يمكن إنكارها، وبالتالي فإن نظرة الأعراق فيما بينها يمكن أن تؤدي لعنصرية وإن لم تكن هنالك سلطة. هنا سأحاول الإسهاب أكثر بخصوص هذا الوجه. (المراجع البحثية سأضعها جميعًا في آخر هذه المساهمة).


في علم الأحياء، هنالك استعمال غير رسمي لمصطلح “العرق” (race) وهو استخدام استثنائي في حالات معيّنة، ليس بينها حالات بشرية، بل لعل معظم هذا الاستعمال في النباتات. عادة يقال إن الأعراق هي تباينات ضمن نفس النوع البيولوجي (species) لكن لم تبلغ تلك التباينات أبعد من ذلك فيسمّيها البعض أعراق. لكن في التصنيف البيولوجي لجميع البشر المعاصرين هناك نوع واحد لهم جميعا، ولا توجد بينهم تباينات حيوية منعزلة وكافية لأن نقول إن هنالك أي أعراق بينهم. هذا من الناحية البيولوجية العلمية. بناء على ذلك قلنا إن العرق مفهوم غير علمي، أي ليس له وجود وفق تصنيف منهجي موضوعي. [1]


لكن، بناء على عملية “العرقنة” التي ذكرناها سابقًا، – وهي ليست عملية علمية – فإن هنالك أعراق. نعم هنالك أعراق وسط البشر، ولكن فقط كصنعة اجتماعية. وهذه الصنعة الاجتماعية (social construct) هلامية وأيدولوجية ولا معنى مستقل لها إلا ضمن علاقات السلطة في المجتمع المعني. بطبيعة الحال أتحدث عن مسمّى العرق في لغتنا الحديثة، العالمية، أي المقابل للمصطلح الإنكليزي (race). لهذا السبب فإن نفس الشخص يمكن أن يصنّف لأعراق مختلفة حسب المجتمع الذي يقيم فيه، وكذلك يمكن لأشخاص ذوي أعراق مختلفة في بلد ما أن يكونوا جميعًا من نفس العرق في بلاد أخرى. لذلك فإن العرقنة في حد ذاتها مشكلة، ونحن حين نستعمل مسميات “الأعراق” في المجال العام اليوم إنما نتحدث في سياقات اجتماعية فقط، والأفضل طبعًا أن تكون تلك السياقات الاجتماعية ضمن سعينا لإنهاء مسألة الأعراق هذه تمامًا، فهي ليست تصنيفات موضوعية حقيقية ولا نحتاج لها عمليًا إلا في فضح السلطات والمؤسسات التي تستعمل العرقنة للتمييز ضد أناس. لكن عمومًا، وعلى أي حال، فإن استعمال كلمة “أعراق” ما زال يجري في أوساط كثيرة، مع أنه يفقد صلاحيته رويدًا رويدًا في دوائر كثيرة الآن. لهذا فاليوم مصطلح العرق في وضع غريب، فهو مستعمَل أحيانًا، ولكن بدون تصنيف موضوعي، ومرفوض أحيانًا لكن بدون أن يؤثر ذلك على استمرارية استعماله. وعمومًا فيبدو أنه ما دامت هنالك عنصرية في هذا العالم فإننا لن نستطيع التخلص تمامًا من مصطلح العرق. لكن يمكننا تحجيمه.


(نلاحظ كذلك أن مقابل مصطلح “العنصرية” في اللغة الإنكليزية مثلًا هو (racism)، أي إذا قمنا بترجمتها حرفيا فهي “العرقية” وليست العنصرية. لكن المقصود منها عمومًا هو التمييز بناء على العرق (التمييز العرقي)، ولأمر ما – لا أعرفه حاليًا، ربما أعرفها مستقبلًا – تم اشتقاق العنصرية من “العنصر” في اللغة العربية لكن بقي مصطلح العرق كما هو).


يضاف إلى ذلك أن عملية المسح الجينومي العالمي الحديث للبشر تشير لأن جميع الصفات التي يمكن إرجاعها لتركيبات جينية في البشر متواجدة فيهم بصورة “أطياف” وليس “مقاطع”. مثلًا، شكل الأنف والعيون ولون البشرة، ليست صفات موجودة في البشر كمجموعات متميزة (مثلًا، ليست كل مجموعة عندها شكل أنف وعيون ولون بشرة واحد) إنما كل واحدة من الصفات متنوعة كطيف في عموم البشر، ثم أحيانًا تتقاطع بعض الصفات لتظهر في مجموعة ما بحيث أن بعض البشر يقولون أن هذه ملامح جماعة معيّنة، لكن الواقع غير صحيح. مثلًا الأنف الدقيق والأنف الكبير مختلطين مع عموم ألوان البشرات (أي هنالك زنوج أنوفهم دقيقة وهنالك أوروبيين/قوقازيين أنوفهم كبيرة والعكس صحيح، لكن التصوّر العام لدى الناس، غير الصحيح، هو أن الأنف الدقيق للبيض والكبير للزنوج). بل في الواقع أحجام الأنوف وألوان البشرات بين البشر مثل “المجال” العددي وليس فقط صفات مستقلة: أي إذا قلنا إن حجم الأنف الدقيق “١” والأنف الكبير “١٠٠”، سنجد أن هنالك تدريج في البشر بحيث توجد جميع أحجام الأنوف من ١ حتى ١٠٠ بحيث لا يمكن أن نضع خطًا فاصلًا واضًحا بين الأنوف الدقيقة والأنوف الكبيرة. نفس الشيء بالنسبة للون البشرة وحجم العيون والطول ونسب الأطراف، إلخ. نحن فقط تعودنا على النظر لأقصى طرفي المجال ١ و١٠٠ ثم نقول أن هنالك فرق واضح بين مجموعتين مختلفات في حين أن الطبيعة عندها ٩٨ خلطة تانية في الواقع الماثل أمامنا. [2]، [3]


وبالإضافة لمسألة أن المظاهر الشكلية “طيف” كما وضحنا أعلاه، فهي كذلك لا تعكس التاريخ؛ بمعنى أن أي مجموعة بشرية قد تبدو متشابهة شكليًا اليوم بسبب أحقاب طويلة من العيش المشترك في بيئة بعينها لكنها سلاليًا قد تعود لعدة آباء وأمهات مختلفين تمامًا. مثلا، في المؤشرات الجينية هنالك ما يسمى بالسلالة J والتي يعود جدها إلى 40 ألف سنة للوراء، وهذه السلالة تتوزع اليوم بين مجموعات الجزيرة العربية وإثيوبيا وأوروبا بنسب مختلفة، هذا على الرغم من التمايزات الشكلية الحاسمة بين هذه المجموعات. مثل هذه النتائج البحثية الجينية تفضي إلى غياب التلازم بين الشكل والسحنة، من جهة، والسلالة بالميلاد عند الناس من جهة أخرى [8]. حتى التشابهات الشكلية (لون/أنف إلخ) تشمل مناطق جغرافية متلاصقة تنتمي لها شعوب مختلفة ثم يكون هنالك طيف في أشكال الناس بين كل منطقة وأخرى. ولعلّنا نذكر الاكتشاف الحفري القريب، الذي عبره تم إيجاد بقايا أحد الأجداد القدماء للبريطانيين، فاتضح أنه كان داكن البشرة وكبير الأنف بصورة لا تشبه البريطانيين المعاصرين بل تشبه أكثر أغلبية الأفارقة الزنوج (الصورة الملحقة).[4]




(صورة أحد أجداد الأوروبيين، من قبل 10 آلاف عام، حسب تحليلات جينية لبقايا هيكل عظمي مُكتَشف)



للأسباب أعلاه نقول إن الكثير من نتائج بحوث الجينات تعزّز أن مفهوم الأعراق غير علمي؛ أي لا توجد له محددات منهجية موضوعية. 


أما التمايزات البشرية العلمية، أي المنهجية وموضوعية، فهي ما يسمى اليوم بالتمايزات “الإثنية”. وهذه التمايزات الإثنية لا تعتمد مفهوم العرق كبيولوجيا (لكن أحيانًا كتصنيف اجتماعي معاصر). الإثنية أمرها أوسع، إذ أنها تصنيف أنثروبولوجي يعتمد الدالات اللسانية والثقافية والبيئية أكثر من الملامح الجسدية، وحتى حين يتطرق للملامح الجسدية والسلالية فهي تتصنّف بدراسة بيئية، أي بربطها بالبيئة التي اقتضت تأقلم الناس بوظائف جسدية معيّنة (مثل نسب دكونة لون البشرة للبيئات الأقرب من خط الاستواء حيث الشمس أكثر عمودية، ومثل نسب شكل الأنف تبعًا لخواص البيئة وضرورات التأقلم أيضًا، إلخ)، فهي تحليلات علمية، متنوعة ومتباينة، تهدف إلى فهم علاقة الجسد بالبيئة، (لا علاقة الخصائص العقلية والنفسية بها وترتيب الناس وفقها مثلًا، كما يفعل العنصريون). لكن على العموم، فالدالات اللسانية والثقافية هي الأساس في التصنيف الإثني، وهو تصنيف يرمي لدراسة التنوع البشري وعلاقته الإيكولوجية بالتنوع البيئي والاحتفاء به في العموم (على غرار “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا..”)، لا لتفاضل الناس وفقه. يتنوع تعريف الإثنية في مصادر مختلفة، لكنه عمومًا يشترك في الخواص التي ذكرناها أعلاه. يذكر القاموس الجديد للتراث الثقافي الامريكي أن الإثنية هي “التماهي أو العضوية في مجموعة معينة، عرقية [كتصنيف اجتماعي] أو وطنية أو ثقافية، عن طريق معيشة تقاليد تلك المجموعة ومعتقداتها ولغتها.” [5] وفي موسوعة بريتانكا، الإثنية هي “مجموعة اجتماعية، أو فئة من السكان في المجتمع الكبير، تتميز عن الآخرين وتترابط بروابط مشتركة من العرق [كتصنيف اجتماعي] أو اللغة أو الوطنية أو الثقافة.” [6] أما الموسوعة العالمية للعلوم الاجتماعية والسلوكية (وهي التي في الحقيقة صاحبة التعريف المنهجي فعلًا) ففيها أكثر من مقال عن الإثنية، تارة عن الناحية التاريخية لظهور المصطلح وملابساته، وتارة عن أهداف استخدامه في مجال الانثرولوجيا، وتارة عن الإثنية واللغة، وتارة عن الإثنية في علم الاجتماع (السوسيولوجيا)، الخ. لكن في قطعة محكّمة بعنوان “علم اجتماع الإثنية”، يتم تلخيص الموضوع بان مكوّنات الإثنية كما هي متعارف عليها في علم الاجتماع تتعلق بما يميز المجموعة الإثنية كهوية جماعية من وجهة نظر أفرادها، من حيث: أ) كيفية شعورهم تجاه بقية أعضاء المجموعة، ب) القيم أو الرموز أو التقاليد المميزة أو الأصيلة التي يرون أن مجموعتهم الإثنية تحظى بها، ج) كيف، وفقًا لذلك يميز أفرادها أنفسهم من الآخرين [7]. ومن التعريفات أعلاه يمكن أن نستنتج أن هنالك تداخلات واسعة، كبيرة وصغيرة، قديمة وحديثة، بين عموم المجموعات الإثنية في أي مجتمع وأي لحظة من لحظات التاريخ، وهذه التداخلات تؤثر وتتأثر فيما بينها كما تساهم في صياغة بعضها بعضًا؛ لذلك أيضا ليس من الغريب أن تكون هنالك هويات متمايزة تنتمي كذلك لهوية جامعة أكبر منها، وهذه كذلك قد تنتمي لمجموعة أخرى من الهويات الجامعة وتتداخل معها، وهكذا دواليك.


الخلاصة إذن هكذا: ليس هنالك وجود علمي للأعراق بين البشر. هي صنعات اجتماعية تتلوّن مع كل مجتمع وعلاقاته التاريخية والسلطوية. أما التصنيفات العلمية المعتمدة بين البشر حقًا فهي الإثنيات، وهي تعتمد تفاصيل الاختلافات اللسانية والثقافية بين المجموعات البشرية المختلفة وفق مفاهيم وأدوات الأنثروبولوجيا الحديثة التي تشتمل على الإنسانيات والعلوم الطبيعية (التاريخ والجغرافيا والإيكولوجيا، إلخ). ولأنها تصنيفات علمية فإن إثنية الأشخاص لا تتغير من مجتمع لآخر، أي بخلاف تصنيف العرق فإن إثنيّتي أنا، مثلًا، لا تتغيّر حين أنتقل من مجتمع لآخر، لكنها كذلك ديناميكية لأنها تتغيّر بمتغيّرات الثقافة واللسان (أي يمكن أن تتغيّر عبر أجيال من نفس السلالة، فربما لا تكون هوية أبنائي أو أحفادي الإثنية بالضرورة متطابقة مع إثنيّتي). إذا تخلّصنا من العنصرية فلن تكون لدينا أعراق بعد ذلك، لكن ستبقى بيننا إثنيات، كصورة من صور الاحتفال بالتنوّع البشري الخلّاق، كما نتمنى.


التنوع الإثني لا نخشى منه – فحتى لو استغلّه البعض لأغراض عنصرية إلا أنه في حد ذاته تنوّع خلّاق في الظروف الإنسانية الحميدة، مثلما لا ينبغي أن نخاف من الأمطار خوفًا من السيول التي قد تصادف بنية تحتية ضعيفة. لكن “التنوّع العرقي” وهم، وعلى الرغم من أننا نضطر لاستعمال هذا الوهم أحيانًا، في عصرنا هذا، لأغراض حميدة، في حين يستعمله الكثيرون لأغراض غير حميدة، إلا أن الخط السليم هو المضي عمومًا نحو التخلص من ذلك الوهم تمامًا، في أقرب فرصة.



* نشر المقال في الأصل في سُرادِق





——–

[1] Morris, Christopher, ed. (1992). “Race”. Academic Press Dictionary of Science and Technology. San Diego / London: Academic Press (Harcourt Brace Jovanovich). “Biology” entry, p. 1777. “an interbreeding subgroup of a species whose individuals are geographically, physiologically, or chromosomally distinct from other members of the species.”

[2] C. Loring Brace and George W. Gill. “Does Race Exist?” posted by Nova on February 15, 2000. PBS.org (Public Broadcasting Service, USA). http://www.pbs.org/wgbh/nova/evolution/does-race-exist.html

[3] Templeton AR. 2013. “Biological Races in Humans.” Studies in history and philosophy of biological and biomedical sciences, Vol. 44(3):262-271.

[4] Sara Gibbens. 2018 (February 7). “Britain’s Dark-Skinned, Blue-Eyed Ancestor Explained.” National Geographic

[5] ethnicity. (n.d.). The American Heritage® New Dictionary of Cultural Literacy, Third Edition.

[6] “ethnic group” (2009). In Encyclopædia Britannica. Retrieved November 02, 2009, from Encyclopædia Britannica Online

[7] “Sociology of Ethnicity” (2004). International Encyclopaedia of the Social and Behavioural Sciences. Amsterdam: Elsevier

[8] محمد قرشي عباس. 2016. “الأعراق، السلالات، الإثنيات.. رؤية علمية”. مدوّنة مقالات في تبسيط العلوم:

 http://popularsciencebyneu.blogspot.com/2016/03/blog-post.html








قصي همرور شيخ الدين. باحث واستشاري، بخبرة تجمع بين الهندسة والحوكمة ودراسات التنمية. مهتم بقضايا التكنولوجيا والاجتماع ونُظُمها، اقتصادًا وبيئة وثقافةً وتخطيطًا. له مؤلفات معنيّة (كتُب وبحوث ومقالات)، بالعربية والإنكليزية. 

من مواليد السودان 1982. دكتوراه من جامعة قويلف، كندا، 2017 (مدرسة التصميم البيئي والتنمية الريفية)؛ ماجستير في الهندسة والسياسات العامة، 2008، كندا، وبكالوريوس في تكنولوجيا هندسة التصنيع (الصناعات التحويلية)، 2006، من الولايات المتحدة.

منذ 2017 يعمل زميلًا باحثًا في منظمة بحوث سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار (STIPRO)، وهي مركز دراسات في المجالات المذكورة، يشتغل في رفد سياسات التنمية والصناعة بأفريقيا، مقره تنزانيا. وفي الفترة بين 2020 و2021 عمل في إدارة مركز البحوث والاستشارات الصناعية (IRCC)، السودان. بجانب ذلك، عمل ويعمل في مواقع واستشارات وبحوث تتراوح بين مجالات التنمية المستدامة وحلول الطاقة المتجددة، والإدارة العامة للتكنولوجيا، ونقل المعارف – بين منتجي المعرفة العلمية وصنّاع السياسات – والسياسات الصناعية؛ إضافة إلى التحرير البحثي والترجمة الفنية.


Comments