مع صنع الله.. كل شيء على ما يرام
كتابة: أحمد رفعت
ذكرنا موت صنع الله لقائنا به، وبفيلمه الذي لا يحبه كثيرًا على حد اعترافه، والذي نتيحه أونلاين الآن. نتذكر صنع الله ونشاهده في أوائل السبعينات، يقدم دورًا من حياته كسجين سياسي في مصر. ونتذكر كذلك خريطة الظروف التي أتاحت لقاء فنانين عرب من بقاع مختلفة للعمل على مشروع سويًا، والحياة المشتركة في وجود أرشيف سينمائي غني في معهد تعليمي عريق. على الرغم من كل المآسي، كان ذلك ممكنًا في ذلك الوقت وكان مؤثرًا.
قرأت عن برنامج أفلام نسقته الفنانة والقيمة الفنية آلاء يونس بعنوان ملفت <<كل شيء على ما يرام، سيدي الضابط>>. كتبت آلاء في تقدمة البرنامج أن العنوان مأخوذ من فيلم من تأليف وتمثيل الكاتب المصري صنع الله إبراهيم ومن إخراج المخرج السوري محمد ملص. وحكت كيف تزامل الاثنان في معهد موسكو للسينما في أوائل السبعينات، كما أضافت ملخصًا بسيطًا عن أحداث الفيلم. مجموعة من السجناء السياسيين في مصر قبيل هزيمة ١٩٦٧. يعتمد السجناء على الجرائد لمعرفة أخبار العالم الخارجي، والأحداث التي تنذر بالحرب؛ لتتوقف الجرائد فجأة عن الوصول إليهم في ٥ يونيو ما يثير غضبهم واعتراضهم. ثم ختمت آلاء حديثها عن الفيلم مصدر العنوان بأنها لم تتمكن من الوصول لنسخة منه.
بدأت عملي كباحث ومنسق أفلام وفنون بصرية في مركز الصورة المعاصرة عام ٢٠١٥، كجزء من فريق مشروع طويل أسميناه <<لو لم يكن هذا الجدار>>. ركز المشروع على الحبس والعزل كأدوات قمع وسيطرة، وكان أول فصول المشروع عن السجون كأداة عقابية. خلال فترة البحث لهذا المشروع، عرفت عن الفيلم. وعرفت أنه سيكون مناسبًا جدًا للعرض كجزء من مشروع فني مهتم بالسجون، بالإضافة لأهمية كاتبه وتجربته الشخصية في السجن وتعاونه مع واحد من أهم المخرجين السوريين الذي التقاه في موسكو. ما أثار فضولي حقًا هو أن صنع الله لعب دورًا كممثل في الفيلم. تواصلت مع المخرج محمد ملص عبر فيسبوك، وسألته عن هذا الفيلم، وإذا كان هناك نسخة منه في مكان ما. أجابني مرحبًا بأنه إذا كنت في القاهرة فإن أفضل فرصي هي سؤال صنع الله نفسه، لأنه من المفترض أن يمتلك نسخة رقمية من الفيلم. بمساعدة فريق المشروع، نوارة بلال وأندريا طال، استطعت الوصول إلى رقم صنع الله، وهو تليفون أرضي قيل لي أنه لا يستخدم غيره. اتصلت وأجابني بنفسه وقال لي أنه يملك نسخة من الفيلم فعلًا، وباستطاعتنا زيارته إذا أردنا نسخة منه. سعدنا بالعثور على الفيلم، وتحمسنا أكثر لزيارة صنع الله في بيته رغم مشاعرنا المختلطة/المتضاربة حينها. كنا نملك بعض التساؤلات حول آرائه في ذلك الوقت، تلك المرتبطة بوضع مصر السياسي، وبأحداث بدأت في ٢٠١٣ أو قبلها حتى، وامتدت إلى وقت لقائنا به في بدايات ٢٠١٦. وربما من المفيد التذكرة بالوضع العام في المجال الفني القاهري في ذلك الوقت.
كان الأمن يداهم العديد من مؤسسات حقوق الإنسان تحت دعاوى مختلفة، بالإضافة إلى حملات متكررة على أكثر من مركز ثقافي في وسط البلد في القاهرة، واحتجاز بعض من العاملين فيها تحت اتهامات مختلفة إلى أن تخلي النيابة سبيلهم لاحقًا. تواترت الأخبار عن زيارات الأمن إلى المؤسسات والقبض على الموظفين. وكذلك القضايا التي فتحت ضد أشخاص ومؤسسات ظلت بعضها مفتوحًة حتى وقت قريب، والتشريعات الجديدة التي تضيق العمل المدني والثقافي، وغلق العديد من المبادرات مثل الفن ميدان وغيرها. اختصارًا، كان الوضع سيء. هذا هو المناخ الذي استضفنا فيه صنع الله وكانت آراؤه حينها مؤيدة للنظام. ما جعلنا نختار أن تكون الفعالية نفسها التي نستضيف فيها صنع الله ابراهيم بدعوة خاصة وليست مفتوحة للجمهور العام. كان المدعوون للفعالية متحمسين لمشاهدة الفيلم الذي يجمع بين صنع الله إبراهيم ومحمد ملص، لكنهم كانوا متحفزين أيضًا لمناقشة صنع الله في آرائه الأخيرة، وموقفه من النظام. كانت الأجواء متوترة، لكنه كان هادئًا ولطيفًا معنا عندما اصطحبناه من منزله إلى المركز حيث يقام العرض والندوة.
في منزله خلال لقاءنا الأول، استجوبنا بلطافة عن مصادر تمويلنا، وعن أي نوع من المراكز الثقافية نحن، وسأل عن بعض المحظورات لديه مثل إذا كنا مدعومين أمريكيًا بأي شكل. سار اللقاء جيدًا في الشقة المتواضعة التي تحتل الكتب أغلبها. ثم جاء يوم العرض؛ شاهدنا الفيلم سويًا، ثم حكى صنع الله عن الفترة التي غادر فيها مصر بعد النكسة، حيث ذهب إلى ألمانيا وعمل في الصحافة بعض الوقت، ثم حصل على منحة عبر منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية لدراسة الإخراج السينمائي في موسكو. لم يكن قبول المعهد لصنع الله سهلًا،لأنه لم يجتز الاختبارات اللازمة لدراسة الإخراج، ولكن أتيح له الالتحاق ببرنامج يمتد عامين لدراسة أساسيات التعبير بالكاميرا والكتابة للسينما. لم يهتم صنع الله كثيرًا بالأمر، فما كان يشغل باله بحق هي الكتابة، إذ كان يعمل وقتها على روايته نجمة أغسطس. رغم ذلك لم يخفي صنع الله انبهاره بالمعهد، و أرشيفها الكبير من الأفلام، التي شاهد العديد منها، لكن أهم ما حدث له في المعهد على حد وصفه، أنه التقى بالمخرج السوري محمد ملص. ورغم اهتمام ملص الواضح بالسينما، إلا أنه شارك صنع الله تقديره الكبير للأدب والرواية بشكل خاص، إذ حاول وقتها كتابة الرواية أيضًا.
لقطة من فيلم كل شيء على ما يرام، سيدي الضابط
بالنظر إلى مذكرات ملص،فقد قضى صنع الله أغلب وقته في موسكو في قص الأخبار والعناوين من الجرائد كطقس يومي. وأباح في ليلة الميلاد عن تجربة السجن، وعن مقتل شهدي عطية بعد نقله إلى سجن الواحات. اتفق الاثنان على العمل على مشروع تخرجهم سويًا، سيكتب صنع الله السيناريو وسيخرجه ملص. فكرا في التعبير عن تجربة السجن ولكنهما اتفقا كذلك على الامتناع عن المشاركة في أي حملة تشويهية لتراث عبد الناصر وقتئذ في أوائل السبعينات. كانت الرغبة في جعل الفيلم وثيق الصلة بفترة سجن صنع الله الحقيقية في أوائل الستينات، خاصةً بعد تمركز الهزيمة كحدث محوري. تحدث صنع الله أيضًا عن تهريب الجرائد إلى السجناء، وعن دوره في قراءة الأخبار لبقية السجناء بما يشبه موجز الأنباء. من هنا أتت الفكرة الأولية لقوام الفيلم، سجناء سياسيون يهربون الجرائد ليعرفوا أخبار العالم الخارجي. جاء المكون الأخير من ملص كما يحكي ويقول "عثرت على 'فكرة' أخذت أهتف بها كشعار: السينكرون! أي التزامن!" وهو ما سيحاول تحقيقه في الفيلم من خلال اللاتزامن بين الحدث (الهزيمة) وبين معرفة السجناء به وإدراكهم له.
جلس صنع الله يتلقى أسئلتنا برحابة، ويجيبنا بقدر ما تخدمه ذاكرته عن فيلم عمل عليه منذ ما يقرب من أربعين عام. ومع انحسار الكلام عن الفيلم وتجربته في روسيا، بدأت الأسئلة التي تحاول استجوابه عن مواقفه السياسية آنذاك من النظام الجديد. احتدمت الأسئلة مع الوقت ليرقى بعضها إلى الاتهامات أحيانًا، ولكنه لم يفقد أعصابه في أي لحظة، ولم يحتد على أي من السائلين أو المتهمين. أجاب الرجل بهدوء كيف أوصلته أفكاره لخياراته الحالية. وحين سألناه عن القمع ومحاربة العمل المدني والثقافي، أوضح بلا كبر أن هذا ما يمكن توقعه من معارضة السلطة في بلادنا، وأنه من السذاجة تخيل أن ذلك سيتغير في المستقبل القريب. هدأ الحضور بهدوئه وإجاباته، وكان من اليسير الشعور بحب الحاضرين، والأهم احترامهم له.
لمشاهدة الفيلم برجاء الضغط على الرابط: https://youtu.be/XJZN6TsGlKM
Comments
Post a Comment