حكاية أحمدين في ماسبيرو 2/2

مقال: محمد يحيى 



يروى أنه منذ منتصف الخمسينات وطوال عقد الستينات كان المزارع البسيط اﻷمي غالبًا في جبال اليمن أو صحراء البادية في الجزيرة العربية يذهب إلى المدينة لبيع محصوله ويشتري بجزء من ثمنه ذلك الجهاز المعروف باسم "صندوق أحمد سعيد". لم تكن تسمية الراديو سواء كان عاديًا أو متنقلاً (ترانزستور) باسم مذيع إذاعة صوت العرب ونجمها اللامع أحمد سعيد مجرد أسطورة أو مبالغة، فمنذ عامها الأول أثبتت إذاعة صوت العرب وعلى رأسها أحمد سعيد أنها صانع حقيقي للحدث وليست مجرد ناقل له، فكان تأثيرها من المحيط إلى الخليج حرفيًا. لقد أصبحت صوت العرب السلاح الأمضى لمشروع ناصر في إعادة تشكيل الوطن العربي و "تحريره"، بدءًا من الأردن والعراق والجزيرة العربية وانتهاءً بالجزائر والمغرب. كانت لصوت العرب محطات مهمة سواء في مكافحة الاستعمار أو دعم قوى التحرر أو في الهجوم على من يخرج على الخط الناصري يمينًا أو يسارًا في المشرق والمغرب.

في المشرق، كانت إحدى أولى تلك الضربات في الأردن في أوائل عام 1955، حيث قاد أحمد سعيد حملة شعواء على جلوب باشا القائد الإنجليزى للجيش الأردني تحديدًا وعلى السيطرة الإنجليزية على الفيلق العربي بشكل عام. ربما دبرت هذه الحملة بترتيب مع الضباط الأردنيين الأحرار من أجل هدفهم لتحرير الجيش الأردني من قبضة المستعمر. أدت هذه الحملة إلى طرد جلوب باشا من الأردن ومعه كل الضباط البريطانيين في مارس من ذلك العام. أما في المغرب العربي، ففي نوفمبر من نفس العام ساهمت صوت العرب من خلال حملة إذاعية قوية قادها أحمد سعيد  في إطلاق فرنسا لسراح الملك محمد الخامس ملك المغرب، وهو أمر اعترف به ملك المغرب وولي عهده الحسن الثاني بعد إطلاق سراحهما مباشرة.[1]


تبقى الملحمة الأكبر في تاريخ صوت العرب وفي مسيرة أحمد سعيد هي الجزائر -تلك اﻷراضي التي تبعد آلاف الأميال عن مصر وبدأت فيها حرب تحرير مسلحة ضد فرنسا- بدءًا من بيان انطلاق الثورة الذي صيغ في مكتب أحمد سعيد حتى لحظة إعلان الاستقلال. يروي فتحي الديب أحد الضباط الثمانية المؤسسين للمخابرات العامة ورجل عبد الناصر في دعم ثورة الجزائر عن ذلك الدور بالتفصيل؛ إذ كان أحمد سعيد على علم بلحظة انطلاق أول عمليات الثورة التي كان مقررًا لها أن تكون في أكتوبر 1954، لكن تم تأجيلها. وهنا يروي فتحي الديب:

"اتصلت بأحمد سعيد ﻷخبره بالانتظار في تنفيذ المخطط السابق إعداده معه في دور صوت العرب في الانطلاق لشد أزر المناضلين الجزائريين. ووجدته هو الآخر قد انتابه القلق وبدأت آماله تتهاوى، فقمت من خلال إيضاح خطورة العمل وأهميته ببث روح الثقة في نفسه من جديد مطالبًا إياه بالصبر والتروي فيما ستأتي به الأخبار من الإخوة". وبالفعل لم تتأخر الثورة الجزائرية في الانطلاق وكان ذلك في الأول من نوفمبر 1954. ولا يزال اﻷرشيف الإذاعي يحتفظ لنا ببيان الثورة بصوت أحمد سعيد.




بيان الثورة الجزائرية 


مثلت صوت العرب أحد أهم أدوات مصر في دعم ثورة الجزائر إلى جانب التسليح والتدريب ودعم القضية دوليًا. حتى قال «فرانتس فانون» ذات مرة، "كان الجزائري العادي يشتري جهاز الراديو ليستمع إلى صوت «أحمد سعيد» وهو يردد كلمة «الاستقلال»". كان المسئول عن تنسيق كل هذا الدعم هو فتحي الديب الذي كان بدوره أحد أوائل من ساهموا في إنشاء إذاعة صوت العرب واستقدام احمد سعيد كمذيع ثم رئيسًا لها بعد أن كان يقدم برنامجًا بنفس الاسم على الإذاعة المصرية. يروي فتحي الديب عن دور صوت العرب في لحظات مختلفة من الثورة مثل اختطاف طائرة قادة الثورة الخمس أو اضرابهم عن الطعام في السجون الفرنسية وحتى دور صوت العرب في مواجهة الدعاية الفرنسية والتونسية المضادة في ذلك الوقت للثورة. فيروي الديب أنه بعد اختطاف فرنسا لطائرة القادة الجزائريين:

"لا شك أن اختطاف بن بلّة ورفاقه أدى إلى نوع من الاهتزاز النفسي للمناضلين داخل الجزائر، إلا أن الإجراءات السريعة التي اتخذناها بواسطة أجهزة إعلامنا، وخاصة إذاعة صوت العرب، لمواجهة الموقف والتصدي له. كان لذلك أثره الحاسم في سرعة استرداد المناضلين الجزائريين لثقتهم في أنفسهم وقدرتهم على الاستمرار في كفاحهم مستندين إلى دعم ومساندة إخوانهم العرب".



أحمد بن بلّة مع قادة الثورة الجزائرية


لم تقصر قيادة الثورة الجزائرية آنذاك في التعبير عن امتنانها لهذا الدور، ففي رسالته من محبسه في فرنسا أعرب بن بلّة عن فرحته هو وزملائه لسماعهم هذه الإذاعة في السجن ودعمهم لها.




كذلك اعتبر الفرنسيون أن صوت العرب عدوهم الأول في معركة الهيمنة على البيئة السمعية للجزائريين. فبدأت محاولات شتى للتشويش عليها باستخدام تكنولوجيا تم تطويرها أثناء الحرب العالمية الثانية، كما يروي فرانتس فانون في مقالة له عن الراديو في الجزائر. كما وصل الأمر بالجنرال الفرنسي سوستيل إلى إصدار قانون يقضي بالحكم بالإعدام على كل من يستمع إلى إذاعة صوت العرب. حتى اللحظة الأخيرة من المفاوضات كانت صوت العرب تلعب دور المدافع عن حقوق الشعب الجزائري وعودة أرضه دون تنازلات، لذا فقد التزمت بناء على أوامر من عبد الناصر شخصيًا بعدم تأييد المفاوضات القائمة بين الجانبين حتى تتضح معالمها.

إن دور صوت العرب المحوري في ثورة الجزائر والصداقة الشخصية بين أحمد سعيد وأحمد بن بلّة جعل الأول  يسجل  في مذكراته، «لعل قصة صوت العرب مع الجزائر أول وأخر قصة لإذاعة على بعد آلاف الأميال، ولا يتجاوز إرسالها اليومي تسعين دقيقة تشهد جدرانها ثورة وهي مجرد فكرة».




من اليمين : أحمد بن بلّة، أحمد سعيد، عماد أحمد. صورة التقطت بمناسبة إذاعة المسلسل الإذاعي "ألفين فرانك " عن قصة كفاح أحمد بن بلّة [2]

على بعد مليمترات من مؤشر الراديو على صوت العرب كانت هناك إذاعة أخرى تناضل من أجل قضية لا تقل دموية أو عدالة عن الجزائر. منذ يومه الأول أخذ أحمد رشاد على عاتقه قضية ثوار الماو الماو في كينيا. كان أحمد رشاد بلهجته السواحيلية الزنجبارية يقود أحد أقوى الحملات الدعائية ضد الإنجليز في إحدى أهم مستعمراتهم في كينيا. أفرد رشاد لهذه الثورة الجزء الأكبر من بث الإذاعة ونجح في جعلها الهم الشاغل لمستمعي الإذاعة من متحدثي السواحيلية في الشرق الأفريقي. اتسمت تغطيته لها بالوضوح والعاطفة والحشد من أجل مقاتلي الحرية في جهادهم ضد الاستعمار كما كان يسميهم. سجل الأرشيف البريطاني جزءًا من التغطية ربما لاستخدامها بعد ذلك في رفع شكوى ضد مصر. يقول أحمد رشاد في تعليقه على ثورة الماو ماو:

"ما من ظلم أكبر مما وقع على الشعب الكيني وما زال يتعرض له حتى اﻵن. انتزعت اﻷرض الخصبة منهم وتم التحفظ عليها، وفصلوا عن المستوطنين بدون أي علاقات معقولة معهم، وفرض عليهم أن يرتدوا بطاقات تعريفية حول أعناقهم مثل الكلاب -حتى أنهم ممنوعون من الذهاب إلى بعض اﻷماكن بعكس ما يسمح للكلاب. إن لم يكن هذا ظلمًا، فكيف يمكن اعتباره؟"


صور لبعض ثوار الماو ماو


مسترشدًا بأستاذه ربما أو مبدعًا هو الآخر، يستعمل أحمد رشاد تشبيهات مثل الكلاب لوصف الحالة التي يعيشها سجناء الماو ماو والأسوار من حولهم. كان لهذه التشبيهات دورًا رئيسيًا في إشعال الحماسة والحشد من أجل الثورة، لكنها لم تقف أبدًا عند وصف السجناء. فلقد انفرد أحمد رشاد بصناعة شعبية لأوصاف كـ"الكلاب" و"الخنازير" لاستخدامها في وصف الإنجليز والمستعمرين البيض في كينيا. يحكي المذيع في الخدمة السواحلية في البي بي سي أحمد رجب كيف أن أحمد رشاد كان اﻷول في استخدامه لتلك الأوصاف وجعلها منتشرة في كل بيت أو مقهى يستمع إليه خاصة في النصف الثاني من الخمسينيات. ففي معرض دفاعه عن الثورة وسعيه لتوحيد صفوف العرب والهنود واﻷفارقة مما يمثلون السكان غير البيض في كينيا قال:

"إن اﻷفارقة والهنود والعرب أخوة، كما أظهر لنا مؤتمر باندونج. أيها اﻹخوة وأبناء وطني اﻷفارقة، إنني أدعوكم أن تعملوا مع إخوانكم العرب والهنود في محاربة هؤلاء الخنازير البيض جنبًا إلى جنب حتى تنالوا حريتكم. دعكم من معسول الكلام السام لهؤلاء الخنازير الاستعماريين البيض، إنها كلمات تروم كي تحدث الوقيعة بينكم وأن تفرقكم وأن تجعل منكم أذلاء إلى اﻷبد".





كان هذا الهجوم الحاد والشخصي على الضباط البريطانيين أو من يتعاونون معهم هو أحد أهم أسباب قلق السلطات البريطانية في شرق أفريقيا عمومًا وزنجبار على وجه الخصوص. فلقد كانوا مقتنعين أنه بسبب تلك الدعاية، امتنع كثير من الناس عن التعاون مع السلطات البريطانية، كما كانت هناك مخاوف حقيقية أن تؤدي هذه الدعاية مباشرة إلى مناوشات عنيفة مع السلطات خاصة، كما فعلت صوت العرب في اﻷردن. كان أحمد رشاد وإذاعة صوتي يا كايرو وإذاعة أفريقيا الحرة من مصادر اﻹزعاج للسلطات البريطانية، الأمر الذي حدا بهم إلى تقديم العديد من الشكاوى إلى النظام الناصري، بل أن ناصر نفسه ربما يكون قد استغرب حدة الهجوم على المستوطنين البيض ووصفهم بالكلاب والخنازير على حد رواية محمد فائق. وخصصت الصحافة البريطانية عدة مقالات تهاجم فيه الإذاعة المصرية عمومًا والإذاعة السواحيلية خصوصًا لكونها مؤثرة جدًا في إثارة جماهير القارة ضد البريطانيين. لم تهدأ تلك الحملة حتى هدأت الثورة نفسها في مطلع الستينات وأدت في النهاية إلى استقلال كينيا عام 1963 بعد استقلال الجزائر بشهور قليلة.





صنعت تلك الثورة والحملة المساندة لها شعبية ضخمة لراديو القاهرة ولنجمه اللامع أحمد رشاد. كان رشاد يعي جيدًا ما وصله أحمد سعيد من مجد إلى حد تسمية جهاز الراديو باسمه، وتحقيقه ما يمكن تسميته الآن بعبادة الفرد، وقد أصبح صوته مرادفًا للحرية والاستقلال في الجزائر أو للوحدة والعروبة في سوريا أو للكرامة والمجد في مصر. لم يختلف المشهد كثيرًا بالنسبة لأحمد رشاد في شرق أفريقيا خاصة زنجبار. في مقالة "ظل ناصر فوق زنجبار" في يونيو 1957[3]، أفردت جريدة الصانداى تايمز البريطانية مساحة لوصف تأثير راديو القاهرة على السكان هناك، "في كل محل وآخر تجد صورة لعبد الناصر وأينما كانت راديوهات السكان العرب فتجدها مولفة على إذاعة القاهرة". كما يحكي علي سلطان عيسى ابن أخ أحمد رشاد عن شعبية عمه في تلك الأثناء:

"لقد ضبط كل من يتحدث السواحيلية في غرب أفريقيا جهاز الراديو الذي بحوزته على تلك اﻹذاعة، واستمعنا في زنجبار ﻹذاعة أحمد رشاد في جميع المقاهي. كان عمي راديكاليًا في تلك اﻷيام، ويريد التخلص من حكم السلطان. لقد أغضبت إذاعته البريطانيين كثيرًا، لكنها ألهمتنا".[4]

يحقق الباحث في جامعة إلينوى جيمس برنان في العلاقة بين الإذاعة السواحيلية وإذاعة صوت العرب. ينتهي برنان إنه رغم الحرية التي أتيحت لمذيعي الإذاعات الموجهة إلا أنهم رغم ذلك استعاروا الكثير من أسلوب الإذاعة الناصرية وطريقة صياغة خطاب مبسط يدور حول الأصدقاء والأعداء، هذا بالإضافة إلى استخدام الهجوم الشخصي والألفاظ والألقاب كوسيلة للحشد وتجييش الجماهير. كما أشار برنان إلى أن الإذاعة السواحيلية أيضًا كانت تميل إلى الاختزال والتبسيط في مواضيع حساسة كعلاقة العرب والأفارقة والإرث "الاستغلالي للعرب" في شرق أفريقيا خاصة بما يتعلق بتجارة العبيد. ذلك الاختزال والتبسيط المخل في النظر إلى بعض القضايا الشائكة كان أيضًا أحد السمات المميزة لصوت العرب وربما أحد أسباب نجاحها جماهيريًا. رغم ذلك  كان كلا الأحمدين وإذاعتهما في الخمسينات على الأقل على رأس  قائمة أعداء السلطة الاستعمارية البريطانية سواءً في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا خاصة زنجبار، لذا أخذت الحكومة والبرلمان البريطاني هذا العداء بشكل شخصي كما يتضح في عدة مناسبات. فأحمد سعيد الذي كان جزءًا من وفد مصري يزور بريطانيا في عام 1965 تسبب بعاصفة في مجلس العموم نقلت صداه الصحف الإنجليزية بعد استقبال رئيس الوزراء له في مقر رئاسة الوزراء بسبب دوره في حرب اليمن. الأمر الذى وصل إلى قيام هاورلد ويلسن بإلقاء خطاب في مجلس العموم لاحتواء المساءلة. كذلك أحمد رشاد وبرنامجه صحيفة شرق أفريقيا في الإذاعة السواحيلية كان الهم الشاغل للحاكم الإنجليزي هناك دونًا عن بقية مذيعي الإذاعة الآخرين. في حديثه لدبلوماسي أمريكي، كان الحاكم الإنجليزي يؤكد على خطورة أحمد رشاد بقوله، "إنه من الواضح جدًا من تعليقات رشاد أنه على علم دقيق بمجريات الأمور هنا من خلال مخبرين له.. هذه الإذاعة وهذا المذيع قد طوروا تأثيرًا قويًا ومقلقًا قد يسبب هجمات انتقامية على البريطانيين في زنجبار". كانت هذه الشعبية الجارفة لكل من الأحمدين ليس فقط لمواقفهما المناهضة للاستعمار، لكن ربما تعود أكثر لسببين وهما أسلوبهما الفريد في الهجوم والحشد والإثارة وثانيًا درجة الاستقلال الكبيرة في السياسة التحريرية لكل منهما في زمن يشهد المركزية الشديدة في صناعة القرار.

منذ اللحظة الأولى لثورة 1952، أصبحت مرادفات كالحرية والاستقلال ترمزان باﻷساس إلى عدو خارجي أو احتلال ما وفقدت أو أفقدت الكثير من المعاني الأخرى لها. لذا نشهد أنه في أوج مرحلة التحرر الوطني والكفاح ضد الاستعمار فإن المركزية وتوحيد صناعة القرار في يد تنظيم أو زعيم واحد كان هو النمط السائد. رغم ذلك لم تكن الأمور بتلك البساطة خاصة في وسيلة إعلام محورية كاﻹذاعة، والدليل على ذلك هو صوت العرب والإذاعة السواحيلية. فصوت العرب التي أنشأت بقرار من جمال عبد الناصر وبناءً على أفكار عسكريين مثل ثروت عكاشة وتوفيق الديب كانت لها علاقة خاصة بالنظام. ظاهريًا كانت صوت العرب تتلقى الأوامر المباشرة من اﻷجهزة الحكومية المختلفة ومن عبد الناصر شخصيًا، وهو ما لا ينكره أحمد سعيد في مذكراته. ويحكي فتحي الديب كما ذكرنا عن تنسيق مباشر بين جهاز المخابرات والإذاعة أثناء دعم ثورة الجزائر أو من خلال استغلال خبرة صوت العرب في إنشاء إذاعة باللغة الفرنسية موجهة للشعب الجزائري. رغم ذلك فبسبب أهميتها ونفوذ وقوة أحمد سعيد فقد لعبت صوت العرب وأحمد سعيد تحديدًا دورًا أكبر من مجرد البوق. فلقد كان عبد الناصر يناقش أحمد سعيد لساعات متصلة في السياسة الخارجية خاصة في المنطقة العربية، بل وصل الأمر به إلى وصف أن "صوت العرب مثل جيش المشير عامر"[5]، ربما يبدو هذا التشبيه الآن مثل الكوميديا المأساوية، لكنه كان يعني الكثير في ذلك الوقت. كان أحمد سعيد مدركًا لموقعه جيدًا وعلى علم بحظوته عند رجال يوليو وزعيمهم، ويذكر في مذكراته كيف كان يناقش السياسية الإعلامية مع وزير الإعلام وقتها محمد فائق ومدير مكتب الرئاسة سامي شرف، وهم من خلصاء الزعيم، ويتمسك برأيه في خطورة استخدام نغمة الانتصار في لحظة ما قبل الحرب والهزيمة، فما كان من سامي شرف إلا أن يقول بشكل مباشر، "أنت لست صانع سياسة". هذه الحظوة لم يخفها ناصر، بل اعترف بوضوح أنه يختلف معه كثيرًا، لكنه لا يريد التدخل لأن التدخل في الإعلام وصوت العرب في رأي ناصر، «بيموت صوت العرب وبيضيع قيمة صوت العرب»، معقبًا أن العبرة بنتائج ما تقول صوت العرب وليس بمحتواها وطريقتها.[6]





مقاطع من المعارك في الجزائر ومظاهرات داعمة في القاهرة




في الطابق الأخير من ماسبيرو كانت الصورة أكثر رمادية وأقل وضوحًا. فاﻹذاعات الموجهة والتي كان عددها أكثر بثلاثين كان معظمها بلا رقيب. ربما كان هذا ﻹرادة مصر كقاعدة لحركات التحرر عدم التدخل، أو ربما أنه ببساطة لم تكن لديها الإمكانات والمعرفة الكافية بتوجيه كل هذا الكم من اﻹذاعات. يحكي سليمان مالك المذيع في الإذاعة السواحيلية كيف أن اﻹدارة المصرية ومحمد فائق كمسئول عن الشئون الأفريقية على رأسها لم يتدخلوا بأي شكل في محتوى الإذاعة ولا أنشطة الحزب الوطني الزنجباري في القاهرة. كان هذا بالتأكيد ينطبق على أحمد رشاد الذي مثل قوة يعمل لها حساب خاصة داخل زنجبار، فأسلوبه وشهرته جعلته يحظى باستقلالية حتى عن الحزب الوطني الزنجباري نفسه الذي رشحه للإذاعة، اتضح هذا عندما سحب رشاد تأييده للحزب الوطني الزنجباري (ذو القيادة العربية) تدريجيًا بعد مذبحة انتخابات 1961 ومال أكثر نحو منافسه الحزب الأفروشيرازى ذو القيادة الأفريقية تمامًا، اقترب رشاد  أكثر من الحزب الأفروشيرازى الذي يقدم فكرة القومية السوداء على أنها الهوية الزنجبارية الحقيقية وليست العربية العمانية. في تلك السنوات، كما يحكي حلمي شعراوي في مذكراته، طلب منه زعيم الحزب الوطني الزنجباري، وهو المقرب من النظام في مصر، أن يوعز لمحمد فائق باستبعاد أحمد رشاد لأنه يميل ناحية الحزب اﻵخر، لكن شعراوي فضل الابتعاد على لعب دور الرقيب وبالفعل لم يتم استبعاده. كان هذا المثال وغيره دليلًا على الحرية في السياسة التحريرية لهذه الإذاعة ولأحمد رشاد تحديدًا. و ربما كانت هذه الحرية  قد سببت لحظات من التناقض بين سياسة صوت العرب والإذاعة السواحيلية، فعلى سبيل المثال أيدت صوت العرب محاولة مجموعة من العرب في مومباسا، كينيا تحت اسم حركة ماوبا في الاستقلال عن كينيا والانضمام إلى زنجبار على أساس وحدة الدين واللغة والتراث المشترك وأنها بذلك تحارب الاستعمار الإنجليزي. على عكس صوتي يا كايرو التي تبث من على بعد طابقين، والتي هاجمت بضراوة عبد الله ناصيف قائد مجموعة ماوبا لأنه انفصالي ويريد تقسيم البلاد وصناعة كونغو جديدة خاصة بعد الاستقلال. كان أحمد رشاد ومن ورائه سليمان مالك وسعيد خليفة يقررون ما يقولونه بشكل كبير ويختلفون في انتماءاتهم الحزبية وأحلامهم عن مستقبل زنجبار. كان أحمد رشاد أكثر استقلالًا عن سياسة الحزب الوطني الزنجباري الحاكم في سنواته الأخيرة، كما كان أكثرهم شهرة في استخدام أسلوب الهجوم وشخصنة الخصومة في سنوات الخمسينات المنتشر آنذاك في صوت العرب. فلقد جعل من صوتي يا كايرو مركزًا -بشكل أو بآخر- للهوية العربية لزنجبار وهجومًا على القومية الأفريقية السوداء المشككة في انتساب العرب للجزيرة . إنحاز أحمد رشاد إلى تلك القومية السوداء في آخر سنواته في الراديو، لكن بعد أن بدأ شلال الدم بالتدفق بين العرب والأفارقة في زنجبار عام 1961.

فمنذ لقائه الأول بعلي محسن البرواني أصبح أحمد رشاد أحد المدافعين عما يسمى بالهوية الزنجبارية والحزب الوطني الزنجباري. ونظرته لتلك الهوية هو إتحاد العرب والآسيويين والأفارقة ضد المستعمر وخلق مجتمع غير عنصري، لكن في سبيله إلى تحقيق هذا الحلم عزز رشاد والإذاعة السواحيلية من الفواصل بين الأجناس في زنجبار وإثارة النعرات العنصرية. استخدم رشاد أسلوبه في الحشد والهجوم الشخصي المجرب قبل ذلك مع الاستعمار البريطاني  في الرد على مناصري الحزب الأفروشيرازى وقادته وقوميتهم السوداء. تنوع الهجوم ما بين اتهامهم بالخيانة ﻷنهم يريدون استمرار الحكم البريطاني للجزيرة تارة والتشكيك في انتسابهم للجزيرة تارة أخرى. فمثلًا قام بالرد على انتقاد له بكونه ليس زنجباريًا خالصًا -باعتباره نصف عربي- من أحد محرري صحيفة الحزب الأفروشيرازى (أفريكا كويتى) بقوله:

"إن محرر الصحيفة وأعوانه أتوا من البر الرئيسي، بينما ولد مذيع صوت القاهرة ومعاونيه قبله في زنجبار. من منا المواطن اﻷصلي لهذا البلد؟ محرر (أفريكا كويتى) أم مذيع صوت القاهرة؟"

في مناسبة أخرى، استخدم أحمد رشاد أسلوب التحقير من شأن خصومه مثلما حدث مع قائد الحزب الأفروشيرازى بوصفه بالمراكبي "boatman" كتذكير له بعمله اليدوي يومًا ما، على عكس أحمد رشاد وأنصاره من العرب ذوي التعليم والطبقات العالية. أصبح نتيجة هذا الخطاب وغيره يحول راديو القاهرة شيئًا فشيئًا إلى راديو العرب، وبدرجة أقل المسلمين خاصة في تنجانيقا وزنجبار . سجلت الوثائق البريطانية دليل على ذلك بنشوب خلاف حاد تطور إلى عراك بالأيدي بعد رفض صاحب محل عربي في دار السلام تغيير محطة صوتي يا كايرو لسماع خطاب الزعيم التنجانقي جوليوس نيريري كما طلب منه رواد المحل من اﻷفارقة. كانت صوتي يا كايرو وصوت أفريقيا الحرة علامتي الانتماء لمعسكر معين يقوده العرب حتى وإن احتوى أفارقة ويدور في فلك القاهرة ويعادي القومية السوداء ويخشاها ربما أكثر من الاستعمار. 



جوليوس نيريري



قلل راديو القاهرة من أهمية قضايا تاريخية كدور العرب في تجارة العبيد في شرق أفريقيا والفوارق العنصرية بين العرب ملاك الأراضي والأفارقة كعاملين لديهم. كانت تلك الرؤية الساذجة لمجتمع خالٍ من العنصرية من العرب والهنود والأفارقة يعيشون في سلام في زنجبار دون تغيير جذري في وضع الجزيرة تقع على آذان الأفارقة من سكان الجزيرة كمحاولة سخيفة لمحو قرون من الهيمنة واللامساواة لصالح العرب. ربما لكونه نصف عربي ونصف أفريقي، بدأ أحمد رشاد يعي هذه الحقيقة يومًا بعد يوم خاصة في أواخر الخمسينات، لكنه لم يكف عن الترويج لتلك الرؤية ومهاجمة أي خصم لها، حتى وقعت أحداث يونيو 1961 التي راح ضحيتها 47 من سكان الجزيرة في خلافات عنصرية. بعد ذلك ابتعد أحمد رشاد بشكل أو بآخر عن التعليق على الأحداث في الجزيرة، وكانت تلك سياسة الإذاعة منذ بداية الستينات بالابتعاد عن رويدًا رويدًا عن دعم العرب في الجزيرة كمحاولة لتأكيد أفريقيتها. أما الإذاعة السرية الصادرة أيضًا من القاهرة صوت أفريقيا الحرة، ففي محاولتها هي الأخرى لتأكيد انتماءها الأفريقي وتحاشي مهاجمة العرب، هاجمت مجتمعات الهنود والآسيويين في كينيا وزنجبار وتنزانيا ووصفتهم بكونهم عملاء للاستعمار وحثت على مقاطعتهم وعدم التعامل معهم. في تلك اللحظة التاريخية  بعد أعوام قليلة من مؤتمر باندونج وخروج فكرة التضامن الأفرو-أسيوى إلى النور، كانت الإذاعات الموجهة من القاهرة -الإبنة البكر لهذا المشروع- تعزز العداء بين المكونات السكانية الثلاثة غير البيضاء في شرق أفريقيا!




من اليمين إلى اليسار: تيتو، سوكارنو، عبد الناصر، نيكروما ونيهرو


لم تكن هذه الملهاة فقط من نصيب الإذاعات الموجهة، فإذاعة صوت العرب التي نشأت لتوحيد العرب وخلق رأي عام بين الجماهير العربية تشعل هي الآخرى حرب ضروس، ليس مع المستعمر هذه المرة، بل مع عدة جهات عربية. وكان لأحمد سعيد وأسلوبه الفريد في الإعلام -الذي أتقنه أحمد رشاد- فضل كبير في اشتعال هذه الحرب وامتدادها لأربع سنوات. فلقد سبب انفصال مصر عن سوريا في 1961 ودخول مصر على خط ثورة اليمن 1962 إلى اشتعال ما يسمى بحرب الإذاعات العربية. كان أحمد سعيد وصوت العرب من أهم أقطاب هذه الحرب. أثرت هذه الحرب الباردة العربية وصداها في الأثير بشدة في شحن الجماهير العربية لصالح عمل عسكري في فلسطين. وكانت إذاعة صوت العرب هي المنصة الرئيسية لمصر في هذه الحرب، حيث هاجمت بشكل متواصل الملك حسين في الأردن والملك فيصل في السعودية وعبد الكريم قاسم في العراق وبورقيبة في تونس. ويفخر أحمد سعيد في مذكراته أن صوت العرب وهجومها كان يرهب هؤلاء الزعماء. لم تكن السخرية فقط في إذاعة نشأت لتوحيد العرب لتسبب هذا القدر من الفرقة والخصومة بين الأنظمة والشعوب العربية، بل في نتائج تلك الحرب، لأنه على حد قول أحمد سعيد نفسه فإن حرب اﻹذاعات العربية وهجومها على ناصر واتهامه بالاختباء خلف قوات الحماية الدولية في سيناء وعدم جديته في تحرير فلسطين من أهم أسباب التصعيد قبل نكسة 1967. فلقد أدت الخطابات المنقولة في موجات الأثير المختلفة إلى حالة من الشحن لدى الجماهير واتهام ناصر بالتخاذل في قضية فلسطين، الأمر الذي دفع "الزعيم" إلى اتخاذه قرار بسحب القوات الدولية وإغلاق مضيق تيران والدفع بالجيش في سيناء لحرب كان أول من يعلم أنه ليس أهلًا لها!

في نكسة 1967، كان المشهد في ماسبيرو عبثيًا، كأنه مقتبس من رواية دون كيخوته. لم يكد يحل مساء خمسة يونيو بينما أحمد سعيد يحارب طواحين الهواء بمفرده، حيث عرف المذيعون في صوت العرب أن إسرائيل تقترب من خط القناة قبل معظم الشعب المصري من خلال اﻹذاعات العالمية، لذا قرروا التخفيف من نبرتهم والانتقال من "سننتصر" إلى "ثابروا"؛ إلا أحمد سعيد. يروى سيد الغضبان، زميل أحمد سعيد في الإذاعة، كيف في تلك اللحظة قرر أحمد سعيد أن يستمر على نفس نبرة الثقة والانتصار حتى بعد اتضاح الرؤية تمامًا بالهزيمة الساحقة للجيش كوسيلة لدعم أي "بصيص أمل" في تحول الموقف لصالح مصر. هزيمة كان أحمد سعيد من القليلين الذين تحملوا مسئوليتهم فيها ودفع ثمنها بإبعاده ووضعه تحت الإقامة الجبرية لفترة من الزمن.



مشاهد من نكسة 1967



سبقت هذه الحادثة بثلاثة سنوات ونصف سقوط الأحمد الآخر، في مشهد ربما يبدو أكثر سيريالية من أحمد سعيد، اكتفى أحمد رشاد بالمشاهدة ولم يتدخل مع أو ضد الثورة أو المذبحة. كان قدريًا بما يكفي ليختار الانسحاب والانزواء بدلًا عن المشاركة، ولو بشكل عبثي مثل أستاذه. ربما كان يعزي نفسه أنه ليس المسؤول عن قرون من العنصرية والتمييز والكراهية بين العرب والأفارقة في جزيرة القرنفل. والحقيقة أنه أيضًا لم يكن بالتأكيد من معاوني جون أوكيلوا الذي دبر المذبحة ونفذها، لكنه بالتأكيد كان يدرك أن صوته طوال سنوات ساهم بشكل أو بآخر في تشكيل مناخ يسمح بما حدث.







مجازر زنجبار



جون أوكيلو


أما أحمد سعيد فظل يردد طيلة سنين عمره حتى وفاته منذ عامين أنه لم يكن يملك خيارًا سوى إطاعة الأوامر العسكرية وقراءة البيانات المرسلة إليه. بالتأكيد لا يتحمل أحمد سعيد ذنب مقتل وأسر الآلاف من الجنود في سيناء وضياع الأراضي العربية وحده، لكن صوته وإذاعته أصبحا رمزًا للهزيمة لأجيال متعاقبة، فسنوات من إعلام الحشد والهجوم والرأي الواحد كأسلوب إعلامي قلده الكثيرون في الداخل والخارج كان كفيلاً بجعل أحمد سعيد أحد أركان تلك الهزيمة وإن لم يكن سببها المباشر.







انتهت في 1967 قصة الأحمدين اللذين ابتدع أحدهما أسلوب وطريقة جديدة في الإذاعة ألهمت الملايين من أجل تحرير بلادهم وضللت كذلك الملايين في أحلك اللحظات وأحوجها للصدق. طريقة قلدها الآخر ونشرها بوعي أو دون وعي لكل الإذاعات الإفريقية الوليدة، لتصبح صوت العرب واﻹذاعة السواحيلية نموذجًا ﻹذاعات قومية "نقية" ترفض أي نوع من التدخل أو التضامن سواء كانت لندن أو دلهي أو القاهرة وتُعْلي من القومية الأفريقية السوداء على حساب أي نوع من الأممية، كما أعلت مصر من عروبتها على حساب انتمائها الأفريقي في تلك اللحظة من تكون دول ما بعد الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط. وتنتهي مغامرة بدأت في ماسبيرو على ضفاف النيل بمشاهد متشابهة للجثث على ضفاف مياه أخرى سواء لجنود مصر على قناة السويس أو عرب زنجباريين على المحيط الهندي في نهاية لم يتخيلها أيًا من الأحمدين.











[1] فتحي الديب عبد الناصر وثورة الجزائر
[2] المصدر موقع عين
[3] John Henderson, “Shadow of Nasser over Zanzibar,” Sunday Times
(London), June 23, 1957


Comments