والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة

ربما من الأفضل ألا نبدأ تدوينتنا بالأنشودة التي أخترنا بيتًا منها ليكون العنوان "والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة"، ربما من الأفضل أن نبدأها من الحرب الباردة التي تأججت بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وحلفاء كل منهما منذ منتصف الأربعينات وحتى مطلع التسعينات، الحرب التي كان هدفها المطلق فرض الهيمنة وتقرير الطريقة التي سيدار بها العالم بعد الحرب العالمية الثانية؛ حربٌ لم يدخر فيها أي من الطرفين قوته كلها ليؤكد للعالم بأجمعه أنه السلطة المطلقة والمسيطرة والتي ستخط تاريخنا من لحظتها، فقد دأبت كلا القوتين على تشكيل تحالفات جديدة وزيادة ترسانتها النووية والدخول في حروب غير معلنة عبر وكلاء كما حدث في الأزمة الكورية، إفشال الثورة الهنغارية، حصار برلين، حرب فيتنام، أزمة الصواريخ الكوبية وغزو السوفيات لأفغانستان. اعتمدت كلا القوتين أيضًا على الحروب الدعائية كاستخدام الولاية المتحدة الأمريكية لنجوم الجاز عبر إرسالهم إلى دول كثيرة حول العالم في رحلات الجامباسادورز – الاسم الذي كان يطلق عليهم- وهي فكرة اقترحتها وزارة الخارجية الأمريكية بدعوى نشر الموسيقى الشعبية الأمريكية لكسب حلفاء جدد خلال الحرب الباردة ومحاولة نفي الادعاءات السوفياتية حول العنصرية في أمريكا، وهي الادعاءات التي لا يمكن إنكار صحتها خصوصًا أن حركة الحقوق المدنية كانت في أوجها في تلك اللحظة وتعالت الأصوات المنادية بإنهاء الفصل العنصري وقوانين جيم كرو؛ كما عملت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية على إنشاء منح للكتاب الشباب في أفريقيا والشرق الأوسط بهدف خلق استراتيجية دعائية ثقافية، ومولت معارض فنية لفنانيين تعبيريين مثل جاكسون بولاك وويليم دي كونيينغ، حتى أن بعض التقارير تشير إلى قيام الوكالة بتمويل ودعم بعض الكتاب كأرنست هيمنغواي، غابرييل غارسيا ماركيز وجايمس بالدوين وغيرهم؛ كذلك فقد مول الاتحاد السوفيتي وبشكل متواصل فعاليات منظمة تضامن الشعوب الأفرو ـ آسيوية وتواجد الأدباء الروس في كثير من الأنشطة الثقافية التي ضمت الشقين الأفريقي والآسيوي.

خلال تلك اللحظة المشحونة ظهرت حركة عدم الانحياز كنتيجة مباشرة للحرب الباردة. فقد عبرت الدول النامية وتلك التي نالت استقلالها قريبًا عن عدم ارتياحها لحالة الاستقطاب الكبيرة وعدم رغبتها أيضًا في أن تكون جزءًا من الحرب الباردة بين الولايات المتحدة بمعاونة حلف شمال الأطلسي والاتحاد السوفيتي بمعاونة حلف وارسو. تشكلت حركة عدم الانحياز من التسعة وعشرون دولة التي حضرت مؤتمر باندونغ، إندونيسيا الأول الذي تبلورت خلاله الفكرة. تصورت الدول المتفقة على عدم الانحياز أن تجنب صراع القوى بين الكتلتين الشرقية والغربية سوف يمكنها من العمل على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وسيجنبها تضييع وقتها في الانحياز لأحد الطرفين، كما اقتنعت أن هذا المبدأ سيضمن عدم إقحامها في الصراعات القائمة بين القوى العالمية العملاقة، لأن الانخراط يمكن أن يحولها إلى مناطق نفوذ للقوى الكبرى وسينتج عن الأمر تلاعب تلك القوى بها والإضرار بمصالحها المتمثلة في تركيز جهودها على العمل الداخلي وتنمية الدولة بما يحقق المصلحة العامة للشعوب.
بذلك تشكلت أهم أهداف حركة عدم الانحياز والتي نصت على احترام حقوق الإنسان وسيادة الدول والحرص على التعايش السلمي بعيدًا عن إبرام التحالفات العسكرية، سواء أكانت جماعية أو ثنائية، وخاصة تلك التي تخدم مصالح الدول الكبرى، كذلك فقد منعت الحركة الدول الأعضاء من توفير قواعد عسكرية للدول الكبرى أو ممارسة أي ضغوط على دولة أخرى وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. وقد وثق ذلك في المبادئ العشر التي نص عليها المؤتمر عدم الاعتداء على سلامة الأراضي والاستقلال السياسي لأية دولة من خلال الأساليب العدوانية أو التهديد بها أو استخدام القوة. حل مختلف النزاعات الدولية من خلال المفاوضات والتوسط والتحكيم أو التسويات القضائية وغيرها من الوسائل السلمية أو أي طريقة سلمية أخرى تختارها الأطراف المعنية وفقا لميثاق الأمم المتحدة، وتعزيز المصالح المتبادلة والتعاون، كذلك احترام العدالة والواجبات الدولية.
إلا أنه من الأسلم افتراض أن الدول المنتمية لتلك الحركة قد تجاهلت مدى تأثير المتغيرات السياسية على سياسات عدم الانحياز وتسببها حتى في تغيير أهداف الحركة، نتج ذلك عن تورط بعض دول عدم الانحياز في الصراعات التي دارت حينها وسعيها حتى لضمان تمويل دولي بهدف الإسراع في تحقيق الأهداف التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي وضعتها حتى تنأى بنفسها في الأساس عن تلك الصراعات وبهدف تركيز جهودها داخليًا! كذلك فإن لاختلاف التوجهات السياسية داخليًا وخارجيًا دور كبير في فشل الحركة في توحيد جهودها وكلمتها، فقد سعت بعض الدول المشاركة للاستعانة بأحد طرفي الحرب الباردة في الدعم العسكري كما فعلت الهند خلال الحرب مع باكستان، فقد اعتمدت كليًا على دعم الاتحاد السوفيتي عسكريًا، وهو ما فعلته مصر أيضًا بعد نكسة 1967 خلال حربها مع إسرائيل.
يمكننا القول أن أهداف حركة عدم الانحياز تلقت الكثير من الضربات ولكن أشدها قوة كانت انتهاء الحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتصار الولايات المتحدة الأمريكية والنظم الرأسمالية وبداية عصر الهيمنة الأمريكية. بعدها ربما انتفت ضرورة الحركة ككل فببساطة لم تعد هناك معسكرين مختلفين تحاول الحركة النأي بمصالحها وتحالفاتها عنهما أو عن الانحياز لأحدهما.
كان لكل ذلك تأثير أيضًا في الساحة الثقافية والفنية، تأثير على الموسيقى والشعر ومختلف الفنون، ففي ذلك الوقت صدرت كثير من المجلات الأدبية مثل مجلة نهضة أفريقية أو مجلة اللوتس وكانت موجة الأغاني الوطنية أو تلك التي تمجد الأفكار الوحدوية الأفريقية والعربية؛ وربما لا تختلف أهداف أنشودة آسيا وأفريقيا التي كتبها الدكتور تاج السر الحسن وتغنى بها الفنان عبد الكريم الكابلي عن أهداف تلك الفترة ككل ولكنها بالطبع تميزت بلغتها الجزلة والشاملة وبالطبع التلحين والأداء الفذّ. فالأنشودة تتحدث عن الرفاقية الروحية التي تشكلت بين الشعوب الأفريقية والآسيوية خلال المؤتمر.
عن الشاعر:
ولد د. الحسن في الولاية الشمالية، السودان عام 1935 ودرس بمدارس النهود الابتدائية ومن ثم بكلية اللغة العربية بالأزهر وتخرج منها عام 1960، سافر إلى موسكو والتحق بمعهد ماكسيم غوركي للأدب في عام 1962، وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1970، ثم عمل في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية بين الأعوام 1967-1973. لدكتور الحسن عدة دواوين شعرية منها (قصائد من السودان) 1956، (القلب الأخضر) 1968، (قصيدتان لفلسطين) 1991، (النخلة تسأل أين الناس) 1992، (الآتون والنبع) 1992. كتب دكتور الحسن أنشودة آسيا وأفريقيا عام 1956 في الذكرى الأولى لمؤتمر باندونغ الذي أقيم في إندونسيا عام 1955 وكان حجر الأساس لتشكيل حركة عدم الانحياز.
عن الفنان:
ولد د. عبد الكريم الكابلي – شاعر، ملحن، مطرب وباحث في التراث الشعبي السوداني- بمدينة بورتسودان، ولاية البحر الأحمر، السودان في عام 1932، درس بمدارس بورتسودان ثم درس بكلية التجارة الصغرى بأمدرمان، بعد تخرجه عين كمفتش إداري بالمصلحة القضائية؛ بدأ الغناء عندما كان في الثامنة عشر من عمره وداوم على الغناء في مجالس الأصدقاء، في عام 1960 لحن أنشودة آسيا وأفريقيا التي كتبها د. الحسن وغناها في المسرح القومي خلال زيارة جمال عبد الناصر إلى السودان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنشودة آسيا وأفريقيا
كلمات: تاج السر الحسن
ألحان وغناء: عبد الكريم الكابلي
عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة
ويطل الفجر في قلبي على أجنُح غيمة
سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة
للظلال الزُرق في غابات كينيا والملايو
لرفاقي في البلاد الآسيوية
للملايو ولبَاندونغ الفتية
لليَالي الفرح الخضراء في الصين الجديدة
والتي أعزف في قلبي لها ألف قصيدة.
يا صِحابي صانعي المجد لشعبي
يا شموعًا ضوءها الأخضر قلبي
يا صحابي وعلى وهران يمشي أصدقائي
والقنال الحر يجري في دمائي
وأنا في قلب أفريقيا فدائي
وعلى باندونغ تمتد سمائي.
يا صحابي يا قلوبًا مفعمات بالصفاء
يا جباهًا شامخات كالضياء
عند حلفا وعند خط الاستواء
لست أدري يا صحابي فأنا ما زرت يومًا إندونيسيا
أرض سوكارنو ولا شاهدت روسيا
غير أني والسنا في أرض أفريقيا الجديدة
والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة
قد رأيت الناس في قلب الملايو
مثلما شاهدت جومو
ولقد شاهدت جومو مثلما امتد
كضوء الفجر يومًا.
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة
يا رياضًا عذبة النبع وريقة
يا حقيقة
مصر يا أم جمال وأم صابر[1]
ملء روحي أنت يا أخت بلادي
سوف نجتث من الوادي الأعادي
فلقد مدت لنا الأيدي الصديقة
وجه غاندي وصدى الهند العميقة
صوت طاغور المغني
بجناحين من الشعر على روضة فنٍ
يا دمشق كلنا في الفجر والآمال شرقٌ.
أنت يا غابات كينيا يا أزاهر
يا نجومًا سمقت مثل المنائر
يا جزائر
ها هنا يختلط القوس الموشى
من كل دار، كل ممشى
نتلاقى كالرياح الآسيوية
كأناشيد الجيوش المغربية
وأغني لرفاقي في البلاد الآسيوية
للملايو ولبَاندونغ الفتية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Asia and Africa
By: Taj Alser Alhassan
Abdul Karim Elkably
When I play O heart old chants
And
dawn overlooks my heart on the wings of clouds
I will
sing the last stanza for the cherished land
For
the blue shadows in the forests of Kenya and Malay
For my
comrades in Asian countries
For
Malay and youthful Bandung
For
green nights of joy in new China
To
which I intone thousand poems in my heart.
O
companions, glory makers to my people
O
green candles that lit my heart
O
companions, in Oran my friends walk
And
the liberated canal runs through my blood
And in
the heart of Africa I’m freedom fighter
And on
Bandung my sky stretches.
O
companions, O hearts full of serenity
Foreheads
as lofty as light
At
Halfa and at the equator
I
don’t know, O companions, I’ve never been to Indonesia,
The
land of Sukarno,
And
I’ve never been to Russia.
However,
as I am in New Africa soil.
And
the darkness imbibes from the light of distant stars
I have
seen people in the heart of Malay
Just
as I saw Jomo;
And I
saw Jomo as he spread
Like
the light of daybreak.
O
Egypt, sister of my homeland,
O
robes with fresh springs and leafy
O
truthfulness
O
Egypt, mother of Gamal and Saber,
You
fill my soul, O sister of my homeland.
We
will uproot the enemies
Because
of the friendly hands stretched to us;
Gandhi's
face and India's deep echo,
Chanting
voice of Tagore;
With
two wings of poetry on a meadow of art.
O
Damascus, in the dawn and hopes, we are all one East.
O
blossoming forests of Kenya,
O
stars, high on the sky, like lighthouses.
O
Algeria;
Here
the embellished bow blends
From
every land, every corner and walkway.
And we
converge, like the Asian winds;
Like
odes of Moroccan armies,
And I
sing for my comrades in Asian countries;
For
Malay and young Bandung.
[1] تحكي القصة أن أم صابر كانت امرأة مصرية بسيطة تخبئ الذخيرة في ملابسها لتوصلها إلى الفدائيين المصريين الذين كانوا يناهضون الاستعمار الإنجليزي.
[2] تمت ترجمة القصيدة إلى اللغة الإنجليزية كجزء من اهتمامنا في المشروع بإتاحة المحتوى باللغتين العربية والإنجليزية.
Comments
Post a Comment