٧٦ شارع النيل

آية أبو باشا

2/2




"مصر في أفريقيا"


بعد وفاة وليام إدوارد بورغاردت دو بويز في أكرا، حيث انتقل هو وزوجته، أطيح بالرئيس نكروما بانقلاب عسكري عام 1966، أرادت شيرلي غراهام دو بويز مغادرة غانا. وكانت وزارة العدل الأمريكية قد منعتها من دخول البلاد مرة أخرى، مشيرة إلى نشاطها في "الأنشطة التخريبية" (لونارديني). عوضًا، فقد أمضت عدة أشهر تسافر من تنزانيا إلى فرنسا إلى الجزائر (هورن: 210). بحلول عام 1967، قررت الانتقال مع ابنها في شقته بشارع النيل في منطقة الجيزة في القاهرة. كتبت عن هذا القرار في رسالة إلى صديق:


. . . إن الأحداث التي وقعت في الستة أشهر الماضية في أفريقيا والولايات المتحدة جعلت من المستحيل بالنسبة لي التفكير في إنشاء منزل خارج منطقة النضال الشديد الذي ينخرط فيه شعبي الآن. . . من الواضح أن نضال التحرير في أفريقيا (وهذا يشمل مصر) قد دخل مرحلة جديدة: عصر الكفاح المسلح للشعوب؛ وذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطليعة الثورة التي أطلقها بالفعل الأفرو-أمريكيين في الولايات المتحدة (هوم: 211).


كانت شيرلي غراهام دو بويز تكتب في لحظة بعيدة عن لحظة الالتزام الأولي لمدرسة العالم الثالث باللاعنف في باندونغ، ومع بداية الحرب العربية الإسرائيلية والنضالات المستمرة ضد الاستعمار من كوبا إلى الجزائر (براساد: 62). تستشهد دو بويز بتحول مشابه داخل الولايات المتحدة حيث قام حزب الفهود السود بنشر دعوته لحمل السلاح لحماية المجتمعات السوداء من الشرطة.

ولكن حتى عندما أصبح القادة الأفارقة أكثر أممية في مقاربتهم لمناهضة الإمبريالية، ظلت فئة القارة الأفريقية في إنماء أهمية ثقافية وسياسية للعديد من النشطاء الأفرو-أمريكيين، سواء في الولايات المتحدة أو في المنفى. أصبح إصرار دو بويز على إدراج مصر في القارة الأفريقية موضوعًا مستمرًا في كتاباتها: من مقالها "مصر أفريقيا" إلى السير الذاتية المتعددة لجمال عبد الناصر بما فيها "جمال عبد الناصر، ابن النيل". أشارت دو بويز إلى الأخير على وجه الخصوص "للتأكيد على مكانة مصر في جغرافيا أفريقية تخيّليّة" (فيلدمان: 19).

يكرر ديفيد غراهام دو بويز تأكيد والدته "مصر في أفريقيا!" طوال الرواية، من خلال شخصياته الرئيسية. حقيقة أن عائلة دو بويز بحاجة إلى تأكيد هذا، تشير إلى سياسة فوضوية لخلق قوميات في سياق ما بعد الاستعمار، حيث يتم تعريف الإدماج بالضرورة من خلال الإقصاء، وتتأخر علامات الهوية خلف الترسيم الجديد للحدود الوطنية. يصور صحفي الرواية بوب جونز هذا التَبَاطُؤ بين الهويات والقوميات الجديدة:


كثير من الناس في هذه القارة لا يفكرون بأنفسهم إلا، كفانتي أو إيبو أو إوي أو زولو أو كيكويو على سبيل المثال. إنهم لا يفكرون حتى في أنفسهم على أنهم غانيون أو نيجيريون أو كونغوليون أو كينيون فكيف يمكن أن يفكروا في أنفسهم على أنهم أفارقة؟" (48).


لا تزال لامَقِيسيّة الهويات بلا حدود في عالم تتزايد فيه الحدود تربك سليمان، بطل الرواية. المفارقة هي أن سليمان نفسه يرفض بشدة هويته المحددة وطنيًا، ويغضب كلما تمت الإشارة إليه على أنه "أمريكي" (34). بدلًا من ذلك، يأمل في إزاحة هوية وطنية بأخرى: العموم أفريقية، التي تمتد عبر القارة بأكملها.

تعد المحادثات حول الهوية ونزعها وإعادة تحديدها الإقليمي أمرًا حاسمًا لفهم أصل النضال من أجل حرية السود والحركات الاجتماعية المناهضة للاستعمار - لا سيما التوتر المتأصل في مدرسة العالم الثالث: مشروع لبناء التضامن الدولي، توحيد الأفارقة، الآسيويين واللاتينيين في عالم أصبح محددًا بالانقسامات الإقليمية وخاصة القومية.



السفر على أرجل اصطناعية


بصفته منفيًا أمريكيًا أسودًا يعيش في "أفريقيا"، فإن عدم قدرة سليمان على تكييف جسده المهاجر في فئة قومية أفريقية هو التوتر الذي يحدد الرواية. حقيقة أن معظم المصريين الذين يصادفهم سليمان لا يرونه أو يرون أنفسهم أفارقة تطارده على الدوام (48). طوال الرواية، يشعر سليمان بالإحباط من محاولته ترجمة سياسات الهوية العموم أفريقية في سياق شمال أفريقي. بصفته مغتربًا يحاول البحث عن أسلافه وهويته وكرامته، في "الوطن الإفريقي الأم"، فإنه يواجه باستمرار خيال مصر "خارج إفريقيا" كما قال الخديوي إسماعيل ذات مرة - أي بناء الشمال وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على ما يبدو فئات ثقافية وسياسية متميزة. تتجسد اللامَقِيسيّة المستمرة في عرج سليمان الدائم بسبب مرض السل العظمي، الذي ترك إحدى ساقيه أقصر من الأخرى؛ الأرض تحته ليست متساوية أبدًا. يقدم كيث فيلدمان (2011: 152) تحليلًا أدبيًا مؤثرًا بالإشارة إلى نظرية برنت هايز إدواردز للشتات. يبني إدواردز نفسه على أعمال ستيوارت هول، من بين آخرين، ويقترح أن عمل ثقافة الشتات يتم دائمًا ترجمته وإعادة صياغته مقابل سياقات مختلفة. وبالتالي، لا توجد ثقافة أو هوية عالمية للشتات. يقتبس فيلدمان تشبيهًا وثيق الصلة بإدواردز:


مثل طاولة بأرجل ذات أطوال مختلفة، أو خزانة كتب مائلة، يمكن دعم الشتات اِستطراديا نحو حالة "متساوية" أو "متوازنة" من الانتماء العرقي الزائف. لكن مثل هذه الدعائم، من البلاغة، الاستراتيجية أو التنظيم، هي دائمًا تعبيرات عن الوحدة أو العولمة، ويمكن "حشدها" لمجموعة متنوعة من الأغراض ولكن لا يمكن أبدًا أن تكون نهائية: فهي دائمًا أطراف اصطناعية (152).


هذا الشتات (وبديهية عموم أفريقيته بين الأمريكيين السود) مفهوم مضلل، كما يقترح إدواردز، تم التقاطه بسبب حالة سليمان المتباينة، التي تتمايل باستمرار لأعلى وأسفل، تحت ثقل عصاه المتغير.

طوال القصة هناك عدة لحظات يكون فيها تمايل سليمان غير قابل للإخفاء بشكل مؤلم. ولعل أبرز هذه الأمثلة هو نهاية السرد، الذي وقع خلال حرب الستة أيام عام 1967. فرغم اغترابه عن هويته الأمريكية ومحاولة الهروب منها بتأسيس جذوره في القارة الأفريقية، فإن الحرب تجبر سليمان على مواجهة أن أمريكانيته ستظل حتمية على الدوام. مع تزايد إدراك الدعم الأمريكي لإسرائيل، حددت السلطات المصرية الجنسية الأمريكية كعلامة على وضع العدو الأجنبي وأمرت جميع الأمريكيين بالمغادرة. لم تستطع أفريقية سليمان إعفائه من هذا الأمر، مهما حاول بشدة التأكيد عليها.

عندما أوقفته القوات المصرية، اضطر سليمان إلى إبراز جواز سفره الأمريكي كشكل من أشكال الهوية. لكنه حاول على الفور إخراج وثائق أخرى لإبطال الوثيقة الأمريكية، بما في ذلك برقية أرسلها إلى الرئيس ناصر نيابة عن الجالية الأفرو-أمريكية في القاهرة، يشير فيها إلى أنهم يدعمون بشكل كامل الجيش المصري، وهو على استعداد للانضمام إليه كجندي. لكن في نظر الأمن المصري، فإن جواز سفر سليمان هو علامة هويته الوحيدة. بعد استسلامه للترحيل، أصبح مرض السل العظمي الذي يعاني منه سليمان مُزعِجًا، وعَرَجه مُفرِطًا.


فلسطين كمعيار


على الرغم من أن الرواية تنتهي بعلاقة سليمان المؤلمة بسياسات الهوية العموم أفريقية - ساقه شبه الاصطناعية كما أشار فيلدمان - في الواقع، مثلت حرب 1967 محورًا في حياة آل دو بويز وسياستها. تم إعفاء كل من ديفيد وشيرلي دو بويز من الترحيل بسبب جنسيتهما الغانية، وظل الأول في مصر حتى عام 1972. كانت مراقبته للحرب العربية الإسرائيلية من شوارع القاهرة، حيث كان على شخصياته الجديدة تجنب الهجمات الصاروخية الإسرائيلية، تأثير دائم على سياسات هويته. 

عندما عاد دو بويز إلى الولايات المتحدة في عام 1972 للبحث عن ناشر لروايته، بدأ العمل كمحرر في جريدة الفهود السود، وهي مجلة دورية أسبوعية تابعة لحزب الفهود السود، وفي أوجها، بيع ما يصل إلى آلاف النسخ في الأسبوع. استخدم دو بويز منصبه لدفع النشاط الراديكالي الأسود في الولايات المتحدة من أيديولوجية العموم أفريقية الصارمة إلى الأيديولوجية الدولية التي تشمل فلسطين. غطى حرب إسرائيل على نطاق واسع، وربط باستمرار بين ظروف الحياة الفلسطينية في مخيمات اللاجئين وتجربة الأمريكيين السود في الغيتو - كلا المجتمعين، كما يوضح دو بويز، كانا تحت الاحتلال. على سبيل المثال، في عام 1973، تحت تحرير دو بويز، امتلأت الصحيفة بآخر المستجدات حول الحرب بين مصر وإسرائيل، مؤكدة على ظروف الفلسطينيين في مخيمات اللاجئين في الأردن (هيليارد: 108-9). علاوة على ذلك، بدأت الصحيفة في الترحيب ونشر العديد من البيانات التضامنية من منظمة التحرير الفلسطينية.

في عام 1980، نشرت الصحيفة مقالًا بعنوان "نحو السلام في الشرق الأوسط"، نقلًا عن رئيس الحزب، هيوي نيوتن، بعد زياراته الخاصة لمخيمات الرشادية للاجئين في لبنان. أدان المقال الولايات المتحدة لتورطها مع الاحتلال الإسرائيلي، نقلًا عن قادة من منظمة التحرير الفلسطينية أنفسهم:


تقول الولايات المتحدة إن الفلسطينيين يجب أن يحصلوا على حقوقهم الإنسانية وفي نفس الوقت، تمنح الولايات المتحدة إسرائيل القنابل والصواريخ والطائرات لقتل شعبنا. تتحدث الولايات المتحدة عن السلام، لكنها تمكُر للحرب (هيليارد: 148).


لم تكن هذه الإدانة للاحتلال الإسرائيلي كجزء لا يتجزأ من الليبرالية الجديدة العسكرية في شمال الأطلسي دون سابقة. أوضح مالكوم إكس هذا الموقف في بيانه حول "المنطق الصهيوني" الذي نشره ديفيد دو بويز في الإجيبشيان غازيت قبل سنوات (في عام 1964)، واصفًا الصهيونية الإسرائيلية على أنها المرحلة الأخيرة في سلسلة علم أنساب الاستعمار الشمال أطلسي.

كتبت شيرلي غراهام دو بويز من القاهرة عام 1973، رابطة الكفاح ضد تفوق البيض في الولايات المتحدة وبين الحرب ضد الصهيونية في فلسطين، بشكل أكثر وضوحًا وإيجازًا، لتربطه مرة أخرى بتعبير وليام إدوارد بورغاردت دو بويز عن "خط اللون":


. . . على طول هذا الخط الطويل، تمتد لمسافة أبعد من تلك  التي من نيويورك إلى سان فرانسيسكو "شعب ملون" يقاتل "شعب أبيض" إسرائيلي!"



* * *


. . . وادعوه للغناء يوضح بوضوح كيف كانت القاهرة خلفية مهمة لوعي دو بويز العالمي بخط اللون. يتحدث دو بويز عن المجتمع النابض بالحياة من الطلاب الدوليين الذين يدرسون في الأزهر الذين قدموا من شرق وغرب أفريقيا، وكذلك من جنوب آسيا وفلسطين. في الرواية، قام هؤلاء الطلاب بمظاهرة دعمًا لمصر خلال حربها مع إسرائيل. وليس من قبيل المصادفة أن صحيفة "الفهد الأسود" جاءت لتعكس موقفًا مماثلًا، يدرز الخلفيات الجغرافية لطلبة الأزهر في خريطة مقاومة العالم الثالث. على الرغم من أن الجزائر وغانا غالبًا ما يتم اعتبارهما محاور تنمو بها القوميات الأمريكية السوداء، إلا أنه لا يجب نسيان مصر.





مراجع:


Berger, Carol. "In Cairo, an Expatriate Black American Recalls Malcolm

 X. "Christian Science Monitor (Feb. 10, 1992): 11.

Du Bois, David Graham (1975), . . . And Bid Him Sing. Palo Alto, California: Ramparts Press

Du Bois, Shirley Graham (1973) "The Confrontation in the Middle East." Black Scholar 5.3:32-37.

____________________ (1970) Egypt Is Africa." Black Scholar 1.7: 2027.

____________________(1972) Gamal Abdel Nasser, Son of the Nile: a Biography.NY: The Third Press.

Du Bois, W. E. B. (1994), The Soul of Black Folk. Dover Publications. Originally Published 1903.

Feldman, Keith (2011), “Towards an Afro-Arab Diasporic Culture: The Translational Practices of David Graham Du Bois.” Alif: Journal of Comparative Poetics (31): 152-172.

Hilliard, David (2007), The Black Panther: Intercommunal News Service. Atria Books.

Home, Gerald (2000), Race Woman: The Lives of Shirley Graham Du Bois. NY:New York UP.

Lunardini, Christine (2006) "Du Bois, Shirley Graham." Encyclopedia of African-American Culture and History. Retrieved December 16, 2015 from Encyclopedia.com:

http://www.encyclopedia.com/article-1G2-3444700400/du-bois-shirley-graham.html

Malcolm X. (1964) "Appeal to African Heads of State." Malcolm X Speaks. Ed George Breitman.

NY: Grove, 1990. 72-87.

Mehrez, Samia (1994), Egyptian writers between History and Fiction. The American University in Cairo Press

Prashad, Vijay. (2008), The darker nations: a people’s history of the third world. The New Press.





آية أبو باشا باحثة مصرية حاصلة على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من الجامعة الأمريكية بالقاهرة ودرجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا مع مرتبة الشرف من جامعة واشنطن.


Comments