مع دو بويز ويسار النكرومية

حلمي شعراوي 






 

فيما بعد فهمت لماذا كان تركيز إدارتنا المصرية على مقر حركات التحرير بالزمالك، وكأن عليَّ أن أبرز تميز العون المصري عن عون الدول الشيوعية أو غيرها. لذلك لم يرتح لوضعي الكثيرون من البيروقراطيين في مصر نفسها مع معرفتهم باتجاهاتي اليسارية، إلا أني كنت شديد الحماس للزعامة الناصرية في القارة. لكن عانيت من الارتباك في الأوساط اليسارية العالية أو الوطنية، خاصة تجاه الصراع الصيني السوفيتي.


وفي فترة وسط الستينات قابلت ديفيد دو بويز ووالدته شيرلي غراهام دو بويز، زوجة المفكر الأفريقي المعروف وليام دو بويز، وأدمجوني في يسار النكرومية أيضًا! بل ومع يساريين مصريين راديكاليين! جرى ذلك عندما جاءا إلى مصر بعد وفاة المفكر الكبير في أكرا عام 1963م، وقرأت معهما قصيدة وليام دو بويز نفسه عن "السويس وفرعون النيل" المنتصر على "الأسد الاستعماري" خلال العدوان الثلاثي على مصر 1956م عقب تأميم القنال. ولا أستطيع أن أغادر هذه النقطة قبل أن أنقل للقارئ ترجمتي لجزء من قصيدة وليام دو بويز التي شدتني لهذه العائلة، ونشرتها في مقدمتي لكتاب دو بويز: "روح الشعب الأسود" ("The Souls of Black Folk") الذي ترجمه إلى العربية أسعد حليم:

 

نهضت مصر الشابة وأمسكت بقناتها

قالت ما هو لي ... فهو لي

سخرت منها أوروبا العجوز وصاحت

إن الكلب لا بد أن يتعلم كيف يعوي

...

صرخت إسرائيل الصغيرة صرخة مدوية

هل يركب فرعون من جديد

لكن ناصر أشار للغرب بنظرة نافر

لقد انقلب السحر على الساحر ...


وبعد بعض أبيات أخرى من أطراف المعركة من الغرب يقول:

 

إلى الشرق تتجه الطبول بالغناء

وتعلو الشمس المشرقة عالية الآفاق

وترفع أفريقيا رأسها إلى السماء

لترى كل آسيا ... تشتعل حمراء ...

 

ذهبت مناقشاتنا مع ديفيد وصحبه بعيدًا عن فلسفة دو بويز حول الوحدة الأفريقية، والشيوعية، وكيف قاوم جورج بادمور مكانة الرجل لدى الرئيس نكروما. فقد كان وليام دو بويز في وضع معلم الجميع ووالدهم، وهو ماركسي أممي بطبعه،  وليس له تحفظات على العلاقات بالسوفييت. وقد لفت نظري - وما زال- ضعف مركز هذا المفكر عند معظم مثقفي القارة مع أنه أحد المؤسسين الحقيقيين لفكر الوحدة الأفريقية، وليس ماركوس غارفي كما ذكر بادمور في كتابه، ومثله الكثير.

 

وبعد ذلك عرفت أن حرم الدكتور دو بويز قد اختارت مصر – بعد الانقلاب على نكروما- لتقيم فيها معظم شهور العام، بل وبعد الإقامة لعدة شهور من عام 1966م طلبت مني السعي معها لشراء شقة على النيل الذي أحبه الدكتور وليام دو بويز – وكان من حظها أن وجدنا شقة جميلة في عمارة تقابل فندق شبرد الذي نزل فيه دو بويز 1958م وعلى نفس المسافة من النيل فكان فرحها عامرًا لدرجة أشعرتني بأني فرد في هذه العائلة. وظل فيها ديفيد دو بويز ابنها حتى انتقل لأخرى وهبها لأحد المصريين - قبل وفاته منذ بضع سنوات فقط.






كانت مفاجأة لي ما ذكره العائدون من أكرا عن فلسفة اللاعنف التي كانت رائجة في الخطاب النكرومي، والتي تعرض لها فرانتس فانون بالهجوم. كان عليَّ أن أدرس أثر الفانونية في أفريقيا مقابل احتمال تأثير الجالية الآسيوية في نشر الغاندية،  والتي قدمت عنها دراسة. كانت المناقشات حول أفكار الزعماء الأفريقيين القاديين في القارة تشغلني بالفعل، ولم يكن ذلك شاغل الحركة الثقافية في مصر إلى حد كبير، إلا في حدود المعنى العالم لتحرير أفريقيا، أو دور مصر في أفريقيا، وكانت الأسئلة توجه لي كأني أحمل معهم السلاح أو أن أفريقيا كتلة واحدة "مشتعلة بالنضال" أو الخيبات ... بينما كانت هذه المناقشات تجري في الوسط الأفريقي عامة وأذكر هنا بعضها:


كنت أشعر بحرج ممثلي حركات التحرير الأفريقية من الحديث عن عدد من المسائل الأفريقية ذات الحساسية، مثل الحديث عن سياسة تنزانيا وهي راعية من رعاة حركات التحرر، أو عن سلوك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي مع منافسيه بينما يبدو خاضعًا للحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا، وأخيرًا الحرج الأكبر من معالجة موضوع إسرائيل. وكنت أحترم موقفهم تمامًا.




* مقتطف من كتاب "سيرة مصرية أفريقية" للأستاذ حلمي شعراوي، الذي يوثق فيه كما ذكر "لفترة تأسيس مصر لسياستها الأفريقية واندماجها في العمل الأفريقي الموحد... "







حلمي شعراوي، سياسي يساري مصري وخبير شؤون أفريقية ومؤسس مركز البحوث العربية والأفريقية. تخرج من قسم الاجتماع جامعة القاهرة عام 1958.

Comments