لمَ قاهرة 1964 مهمة في أوكلاند 1975

مقال: بالتسار بيكيت


(1/3)





لمَ قاهرة 1964 مهمة في أوكلاند 1975

المشاعية، الأممية، الانتحار الاِرتجاعيّ في رواية ديفيد غراهام دو بويز "... وادعوه للغناء"

 

 

تجبر رواية ديفيد غراهام دو بويز "... وادعوه للغناء" الصادرة في عام 1975 - والتي أُوقف طبعها منذ فترة طويلة، وتجاهلها جميع الباحثين باستثناء عدد قليل - قراءها على تصور التحرر الأسود خارج الأطر الخطابية - الزمانية والمكانية - التي حددت تقليديًا فهمنا للحقبة. يتحدى النص بوضوح التاريخ السائد في الستينيات الذي يعرّف الحقوق المدنية، كما عبّرت جين ثيوهاريس عنها بأنها، "حركة لا عنيفة ولدت في الجنوب خلال الخمسينيات وظهرت منتصرة في أوائل الستينيات ولكن بعد ذلك خرجت عن مسارها من قبل القوتين التوأم: قوة السود ورد الفعل الأبيض العنيف عند سعيها للتوجه نحو الشمال بعد عام 1965" (2). عِوَضًا، تطالب "... وادعوه للغناء" قارئها بربط الفترة في قلب الرواية، أي الستينيات، بلحظة نشر الرواية، أي ما بعد الحقوق المدنية في السبعينيات. بالإضافة إلى ذلك، على كل حال، فإن التركيز المكاني للرواية على مصر وظهورها في سياق صراعات قوة السود في منطقة الخليج خلال منتصف السبعينيات يشكل أيضًا تحديًا لاختزال نضالات حرية السود في جنوب جيم كرو - مكملاً عوضًا عن ذلك غرب جيم كرو وشبح جيم كرو العالمي. على هذا النحو، تتمحور الرواية حول حياة مجموعة كبيرة من المغتربين الأمريكيين الأفارقة (معظمهم من الذكور) في الستينيات في القاهرة، والذين يربطون النضالات من أجل الحرية في الداخل بحركات إنهاء الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط بدرجات متفاوتة. تم تجاهل هذا الجانب من الرواية أيضًا من قبل مجموعة مختارة من الباحثين الذين درسوها حتى. تحمل "... وادعوه للغناء" رسالة مهمة لكفاح تحرير السود في السبعينيات، لا سيما ضمن سياق إعادة هيكلة فرع أوكلاند لحزب الفهود السود، والذي عمل فيه ديفيد غراهام دو بويز كمتحدث رسمي ومحرر من عام 1973 إلى عام 1977. أعيد إصدار رواية ديفيد غراهام دو بويز، بعد نشرها الأولي ككتاب، في شكل مسلسل داخل صحيفة الحزب "الفهود السود"؛ تبدو الرواية ظاهريًا عن قاهرة 1964، لكنها تواجه أعضاء الحزب العاديين بخيار صارم بين بناء مجتمع متعدد الثقافات وأسلوب حرب العصابات.

يصوّر مشهد مركزي في قلب الرواية، خلال حدث لموسيقى الجاز والشعر في نادي الفنون الجميلة بالقاهرة، الإمكانات الثورية للتضامن الأفريقي، الأفرو-عربي والأممية الإسلامية التي صارت ممكنة بفضل مناهضة الاستعمار والطقس التحريري لمصر في عام 1960م. وهنا يهدى سليمان بن راشد، وهو شاب أمريكي أسود وأحد أبطال الرواية الرئيسيين، قصيدة لـ "الشهداء السود في الولايات المتحدة الأمريكية الذين قتلوا برصاص الشرطة والحرس الوطني والجيش في هارلم، في فيلادلفيا، في روتشستر، في جيرسي سيتي، ومونتكلير وأورانج، نيو جيرسي، بينما يعبّرون ​​عن سُخطهم النَزِيه عبر التمرد على كراهية الرجل الأبيض وعنصريته في أمريكا" (دو بويز 97). يلاحظ الراوي أن "سليمان نظر خلال كلماته الأخيرة بثبات إلى وجوه مجموعة من الأمريكيين البيض الجالسين على يساره في الصفوف الأمامية" (97). تمت ترجمة كلمات سليمان (وإن كان ذلك بطريقة مبسطة) إلى اللغة العربية بواسطة عبد المنعم، عضو مصري في النادي، والذي "رن صوته بالتَأثّر عندما أنهى التصريح" بينما "نظر بثبات إلى وجوه البيض في الصفوف الأمامية وهو يكرر الكلمات الأخيرة، ولمحة شَيطانِيّة شبه شريرة لابتسامة تدور حول زوايا فمه الكبير وعينيه الكبيرتين السوداوين" (98).

ما يحدث هنا، بالطبع، هو أنه بينما يترجم شعر سليمان إلى العربية، يربط المترجم الجمهور الأمريكي الأبيض بالمضطهدّ، وبالإضافة إلى ذلك، يختار مخاطبتهم مباشرة. بذلك يتضخَّم النقد الأمريكي الأسود بالشرح المصري. وبذلك يجعل وجود الأمريكيين البيض مرئيًا باعتباره تهديدًا محتملاً لمصر أيضًا. بعد هذه الترجمة مباشرة، "كسر الكثيرون الصمت بتصفيق عالٍ وحماسي، والذي سرعان ما تبناه مجموعة كبيرة من الطلاب الأزهريين [من جامعة الأزهر بالقاهرة]، ومعظمهم من السود، الذين احتلوا عدة صفوف بالقرب من المقدمة. ثم انضم الجمهور بكامله لإنتاج صوت موافقة دافئ، قويّ ومستمر "(دو بويز 98). إذن، في هذا المشهد يحقق استياء سليمان عدة أمور. فهو يصل إلى جمهور خارج مجموعته الديموغرافية بفضل الترجمة. يجب أن أذكر هنا أن الجمهور يشمل "الطلاب السود الشباب من غرب وشرق أفريقيا، الدبلوماسيين الأفارقة الشباب ومقاتلي الحرية من جنوب أفريقيا، بعض الباكستانيين والطلاب الهنود من جنوب أفريقيا. . . [وكذلك] بعض الفلسطينيين وبعض المصريين "(103) - وبالتالي يمثل صورة مصغرة لعالم إنهاء الاستعمار. في هذا السياق، يواجه غضب سليمان اللفظي الأمريكيين البيض ثلاث مرات: مرة بكلماته الخاصة؛ المرة الثانية عندما ترجم خطابه وكرره المترجم المصري. والمرة الثالثة عندما صفق له الجمهور، "انفجروا بالتصفيق والهتافات" (103). يلاحظ كيث فيلدمان أن "هذا المزيج الغني بين الأداء والتاريخ، يتنقل بسرعة بين الأنواع الأدبية (الجاز والشعر والسرد) واللغة (العربية والإنجليزية)، مما يكشف عن محاولة الرواية تخيل لغة أفرو - عربية رائجة" (164). في حين أن هذه اللحظة، كما سأوضح أدناه، تشكل نجاحًا نادرًا في التواصل بين الثقافات لسليمان نفسه، فإن المشهد يشير إلى مركزية القاهرة بالنسبة للتعبير الدولي الأسود في الستينيات.

في الواقع، بعد الاستقلال الفعلي لمصر في عام 1952 (عقب الاستقلال الرسمي للأمة في عام 1922)، أصبحت القاهرة، من خلال اجتذابها للأعضاء الناشطين والثوريين من الشتات الأفريقي، مختبرًا لسياسات أممية مناهضة للهيمنة ومناهضة للاستعمار. إلى جانب الشخصيات المعروفة (مثل شيرلي غراهام دو بويز) والزائرين لفترة قصيرة (مثل مايا أنجيلو ومالكوم إكس)، كان جيل من النشطاء الشباب الذكور، وكان العديد منهم أبناء ثوار مشهورين (مثل جمال نجل كوامي نكروما، ووالاس وأكبر أبناء إلايجا محمد، وديفيد نجل شيرلي غراهام دو بويز، وربيب وليام إدوارد بورغاردت دو بويز) الذين استقروا في القاهرة. كما تؤكد ميثاء الحسن، "أصبحت القاهرة مادِّيًّا، مثل باريس ولندن من قبلها، عاصمة للأممية السوداء" (10). على الرغم من أن "... وادعوه للغناء" قد تم تجاهلها ثقافيًا، فقد حدد أليكس لوبين وكيث فيلدمان القاهرة التي رسمها غراهام دو بويز بأنها "عاصمة عالمية في العالم الثالث" (111) و "نقطة تحول حاسمة لتوضيح أشكال أممية العالم الثالث وتحرير السود"(156).

يضع هذا المقال الرواية في العديد من السياقات الحاسمة، لتفسير سياسات غراهام دو بويز لتصوير القاهرة الأممية السوداء، وأيضًا لفهم دوافعه للتذكر بعد عقد من الزمن. أولاً، يعيد مسار سيرة ذاتية منسية إلى حد كبير اليوم: يتحدى نشاط ديفيد غراهام دو بويز وكتاباته منطق الحرب الباردة للاستثنائية الأمريكية من خلال توضيح أن النضالات من أجل المساواة بين الأمريكيين الأفارقة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحركات إنهاء الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. ثانيًا، سأخذ في الاعتبار نشر الرواية في عام 1975، عندما عمل غراهام دو بويز كمحرر ومتحدث باسم حزب الفهود السود ومقره أوكلاند، خلال فترة إعادة التوجيه الأيديولوجي وبناء ائتلاف مهم للحزب. مع نهاية مصر عبد الناصر في عام 1970، أصبح حزب الفهد الأسود لغراهام دو بويز المكان الذي كان من الممكن فيه وجود خيال أممي أسود في السبعينيات.

كان ديفيد غراهام دو بويز، الذي يعد الآن هامشيًا في التاريخ الغني للأدب والنشاطية الأفرو-أمريكية، شخصية رئيسية في أعمال القاهرة الأممية السوداء خلال الستينيات. ومع ذلك، على الرغم من والديه المشهورين، فقد ظل شخصية هامشية مغمورة بعض الشيء، تجاهلها علماء الأدب الأفرو-أمريكي، وحركة الحقوق المدنية، وقوة السود بشكل عام. هناك عدة أسباب لذلك. لم يظهر ديفيد بشكل بارز في سجلات حركة الحقوق المدنية، التي كتب عنها من الخارج، بسبب منفاه الاختياري من الولايات المتحدة طوال الستينيات. أَيضًا، فإن المواقف الدقيقة لغراهام دو بويز، اللطيف الكلام، قد تلاشت بسهولة من قبل شخصيات عامة أكثر حزمًا، وجد نفسه بصحبتهم - مثل مالكوم إكس وهيوي نيوتن. ثالثًا، كان الكثير من أعماله تحريريًا وغالبًا ما لا يحمل اسمه. قاومت حِرفَة غراهام دو بويز التصنيف السهل بصفته صحفيًا، محررًا، ناشطًا، متحدثًا رسميًا، روائيًا وأكاديميًا، شارك في النضالات المناهضة للحرب والاشتراكية والحقوق المدنية وحقوق الإنسان ومكافحة الاستعمار والنضال الأكاديمي في عدة قارات. يجادل مايكل ويست وويليام مارتن بوصف ما اسمياه بـ "الفصل الفكري"، بأن "الدراسات الأكاديمية للحرب الباردة استبعدت فعليًا فكرة وجود أممية سوداء عملت على تماسك نضالات الحرية للشعوب الأفريقية على مستوى العالم" (3). حتى وقت قريب جدًا، على حد زعمهما، طمس "السرد الرئيسي" السائد، كما تم إنتاجه بشكل خاص بواسطة الأكاديمية البيضاء التاريخية، بثبات وفعالية الرواية السوداء الدولية المضادة (2). في ضوء ذلك، دعا كلا المؤلفين إلى "اِستِرجَاع" و "استعادة" مثل هذه التواريخ الضائعة للنضال المشترك (2، 3). بدأت أعمال كارول أندرسون وبيغي فان إشن وبريندا غايل بلامر هذا النوع من العمل في أعقاب نهاية الحرب الباردة. يستجيب ما يلي لهذه الدعوة، حيث أنني، بالاعتماد على عدد لا يحصى من المصادر، سأجمع صورة مختصرة عن حياة مناسبة بشكل خاص لتوضيح كيف تم نفي الأصوات التحررية السوداء من الحقوق المدنية في الستينيات، لتنخرط في نضالات إنهاء الاستعمار في الخارج - ولكن أيضًا كيف استمر نضالهم في السبعينيات.

ولد ديفيد غراهام دو بويز باسم ديفيد غراهام ماكانتس في سياتل، واشنطن، في 9 مارس 1925، وهو ابن شيرلي غراهام وشادراش توماس ماكانتس، خياط وتاجر نسيج، وقد غادر العائلة بعد وقت قليل من طلاق والديه في عام 1927. بعد انتقال شيرلي إلى باريس في عام 1928 لدراسة التأليف الموسيقي في جامعة السوربون، نشأ ديفيد في أماكن مختلفة في إنديانا بواسطة أجداده، ومن عام 1942 إلى عام 1943 درس آلة الكمان بمعهد أوبرلين للموسيقى في أوهايو. غادر بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ليخدم ثلاث سنوات في الجيش الأمريكي وأمضى عامًا واحدًا كمدرب في مانيلا بالفلبين. بعد انتهاء الحرب في أوروبا، شارك ديفيد في مظاهرات في مانيلا لتسريع عودة القوات الأمريكية المتمركزة في المحيط الهادئ إلى الوطن، وهي المرة الأولى التي يشارك فيها في أي نوع من الاحتجاج. عاد ديفيد من الحرب ليعيش في نيويورك مع والدته، بعد أن دمره موت شقيقه الأكبر روبرت بمرض السل في عام 1944، وخيبة أمله بسبب الفصل العنصري في القوات المسلحة الأمريكية والقمع المستمر للأمريكيين الأفارقة في الوطن. انضم إلى الحزب الشيوعي حوالي عام 1950، اقتداءً بشيرلي. ومع ذلك، سرعان ما تحدى العنصرية الكامنة للحزب، وهو الأمر الذي تلقى بسببه تهديدات مفتوحة وطرد رسميًا. بعد زواج والدته من وليام إدوارد بورغاردت دو بويز، وهو صديق قديم للعائلة، في عام 1951، عاش ديفيد، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك ستة وعشرون عامًا، معهم في شقتهم في بروكلين هايتس وقرر اعتماد اسم دو بويز رسميًا، ثم اعتبر وليام رابّيه. خضعت الأسرة لتدقيق حكومي مكثف وتم حجب جوازات سفر كل من وليام وديفيد منذ عام 1951 حتى عام 1958، بسبب انتمائهم إلى الأحزاب التقدمية والشيوعية خلال حقبة مكارثي. في عام 1959، وبدعوة من ماو تسي تونغ، أمضى وليام وشيرلي عدة أشهر في جولة في الصين، رافقهم ديفيد للدراسة في جامعة بكين (دو بويز، مقابلة).

يجسد اضطهاد عائلة دو بويز خلال الخمسينيات من القرن الماضي مصير الأممية السوداء في سياق الحرب الباردة. كان الفكر الدولي الأسود منتشرًا في جميع أنحاء المجتمعات الأفرو-أمريكية حتى أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. في عشرينيات القرن الماضي، طورت الرابطة العالمية لتنمية الزنوج وعصبة المجتمعات الأفريقية (UNIA) التي يرأسها ماركوس غارفي ومؤتمر عموم أفريقيا الأكثر نخبوية، بقيادة وليام إدوارد بورغاردت دو بويز، فهمًا للتاريخ تصور مصائر الأمريكيين الأفارقة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثروات الشعوب السوداء في أماكن أخرى. كما بين روبين سبنسر وآخرون، استمر الفكر الدولي الأسود بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن عندما أصبحت الولايات المتحدة أكثر قلقًا بشأن صورتها العالمية في سياق الحرب الباردة، فقد "تحركت ضد المواطنين الذين أثاروا شكوكًا حول [إخلاصها للعقيدة الديمقراطية]، "خاصة إذا تم تقاسم هذه الشكوك مع الجماهير الدولية" ("داخل ثورة الفهود" 215). بشكل واضح، عندما تعرض وليام دو بويز للاضطهاد في عام 1951 لعدم التزامه بالخطاب الرسمي للحرب الباردة، رفضت الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين الدفاع عنه. كما تشير جاكلين دود هول، "اكتسب قادة الحقوق المدنية الذين كانوا على استعداد لإسكات انتقاداتهم للسياسة الخارجية الأمريكية والنأي بأنفسهم عن اليسار درجة من الوصول إلى قاعات السلطة التي لم تكن لديهم سابقًا" (1249). هذه الإستراتيجية، كما يشير سهيل دولاتزاي، "صدعت أممية سوداء ناشئة من خلال احتواء مناهضة العنصرية في إطار وطني، وخلقت أنواعًا جديدة من المواطنين الإمبرياليين خلال فترة جديدة من بناء الإمبراطورية" (17). يلاحظ دولاتزاي بشكل ملموس أنه في مقابل التشريع التقدمي، فإن أعضاء مؤسسة الحقوق المدنية "دعموا سياسة خارجية عدوانية للولايات المتحدة باسم معاداة الشيوعية، بما في ذلك التدخلات والحروب السرية للولايات المتحدة في أفريقيا وآسيا لمنع النفوذ السوفيتي من الانتشار هناك، لأن الشيوعية كان ينظر إليها بواسطة الولايات المتحدة على أنها تهديد أكبر للعالم الثالث من الاستعمار "(11). أعيد تصور تحرير السود بسبب الضغوط التي مارستها العديد من الإدارات الأمريكية اللاحقة، في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وتم التعبير عنه بالكامل ضمن الحدود الأمريكية - كدفع من أجل الحقوق المدنية، وليس حقوق الإنسان، وكصراع لتغيير الأمة، وليس كجزء من الكفاح العالمي ضد العنصرية والاستعمار. يرى دود هول أن "الحقوق المدنية، بالنظر إليها بهذه الطريقة، تبدو كتضحية أكثر من كونها نتاجًا للحرب الباردة" لأن هياج معاداة الشيوعية "خنق الدوافع الاشتراكية الديمقراطية التي شجعتها مناهضة الفاشية ومعاداة الاستعمار، واستبدلتها بليبرالية عرقية في الحرب الباردة" (1249). على النقيض من مؤسسة الحقوق المدنية، أشار دولاتزاي إلى أن الأمميين السود لا يزالون متشككين ويتحدون السياسة الخارجية الأمريكية بشكل صريح، "ينظرون إليها على أنها شبيهة بالاستعمار الأوروبي، باعتبارها امتدادًا لمصير واضح ومنطق عنصري تمارسه في الداخل". (11). إنه بالضبط هذا التقليد القيم هو ما تمثله عائلة دو بويز - بعد 1960 في المنفى.



القاهرة، 1964م

 

سافر ديفيد غراهام دو بويز إلى مصر على متن باخرة من مرسيليا في ذلك العام، مترددًا في العودة إلى الولايات المتحدة خوفًا من المزيد من الأعمال الانتقامية. أخبر كارول بيرغر بعد عقود عن وصوله إلى الإسكندرية: "لقد وقعت في حب مصر، لقد جئت إلى هنا واكتشفت أن الجميع يشبهونني، وأبدو مثل أي شخص آخر. تم قبولي كإنسان دون أي إشارة إلى لون بشرتي. لقد كانت تجربة جارفة. وجدت نفسي غير مرئي" (11). خلال إقامته اللاحقة التي استمرت اثني عشر عامًا في البلاد، عمل غراهام دو بويز كمحرر ومراسل أجنبي في الجازيت المصرية، وأرابزرفر، وميدل إيست نيوز، من بين آخرين، حيث غطى مصر الناصرية وسياسة الحرب الباردة. كما حاضر في الجامعة الأمريكية[1] في القاهرة وعمل كاتبًا ومذيع برامج في إذاعة راديو القاهرة باللغة الإنجليزية. غطى غراهام دو بويز حملات الحقوق المدنية، والانتفاضات الحضرية، وصعود القوة السوداء في الولايات المتحدة في تحد للسفارة الأمريكية في القاهرة. قال في مقابلة مع صديقه جمال نكروما بعد عقود إن الشيء الذي كان جذابًا في مصر هو "قدرته الجديدة على المشاركة بطريقة فعالة وذات مغزى. كصحفي، يمكنني كتابة ما أريد، وهو ما لم أتمكن من كتابته في الولايات المتحدة في ذلك الوقت. تلك، كما تتذكر، كانت سنوات مكارثي. لم أتمكن من كتابة ما كتبته في وسائل الإعلام الرئيسية ولم أتمكن حتى من المشاركة بشكل كامل في النشاط اليساري في الولايات المتحدة" (نكروما 1). كما عمل مستشارًا لحكومة كوامي نكروما، أول رئيس لجمهورية غانا - حيث كان يسافر كثيرًا وقد صار مواطنًا متجنسًا هناك، مثل والدته ووليام دو بويز من قبله. كانت إحدى اللحظات المحورية خلال هذه السنوات عندما صادق غراهام دو بويز مالكوم إكس، الذي كان يُحضر خطابه في منظمة الوحدة الأفريقية (OAU) لطلب الدعم لقرار الأمم المتحدة لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة. تم نشر خطاب مالكوم بعد ذلك بواسطة غراهام دو بويز في الجازيت المصرية.

بشكل هيكلي، فإن زيارتي مالكوم لمصر وخطابه يشكلان مركز "... وادعوه للغناء." لتسليط الضوء على مخاطر المنظور المكتسب، والتحدي الذي فرضته إقامة مالكوم في مصر على الهيمنة الأمريكية العالمية، فإن الأمر يستحق رسم القاهرة من وجهة نظره. كانت زيارات مالكوم جزءًا من رحلاته الممتدة خلال الشرق الأوسط وأفريقيا - حيث توقف في المملكة العربية السعودية، نيجيريا، ليبيريا، المغرب، الجزائر، الكويت، لبنان، إثيوبيا، تنزانيا، غينيا، نيجيريا وغانا - بعد مغادرته أمة الإسلام في مارس 1964. كرر مالكوم دعوته للوحدة الأفريقية العربية بأقوى العبارات في منظمة الوحدة الأفريقية في يوليو، مدعيًا أنه "إذا كان على أي شعب أن يعرف كيف تمارس الأخوة، فهو الزنجي الأمريكي وشعب مصر" (نكروما 1). مثل غراهام دو بويز، كانت تجارب مالكوم الأولية في مصر في أبريل إيجابية للغاية. كتب مالكوم في يومياته "الجمهورية العربية المتحدة (الإسلام) تمثل مزيجًا مثاليًا لجميع الأعراق (البشرات)" (يوميات 3)، (مستخدمًا مصطلح الجمهورية العربية المتحدة المنحلة آنذاك، وهو اتحاد قصير العمر بين سوريا ومصر استمر من عام 1958 إلى عام 1961). اقترح غراهام دو بويز لاحقًا، للتأكيد على تأثير إقامة مالكوم في مصر على نظرته للعالم، أن "الشيء المهم بالنسبة للأمريكيين الأفارقة هو التراكم الجماعي للبشر الملونين، حيث يشكل البيض أقلية - أقلية متميزة ؛ أخوة ووحدانية التجربة "(بيرغر 11).  بالتأمل في أمة ما بعد الاستعمار، تتفكر يوميات مالكوم إكس لعام 1964 (التي نُشرت في 2014) في أن "أكبر تهديد للغرب هو التصنيع في مصر (الاستقلال الحقيقي)" لأن نهوض بلد أفريقي من الاستعمار إلى الاستقلال الاقتصادي الحقيقي بمثابة مثال "خطير" (حافز) للآخرين "(يوميات 3).

من المهم أن نفهم أن رغبته في بناء تحالفات بين الثقافات في هذه الرحلة قد ميزت مقاربته لتحرير السود، بدلًا من أن تشكل انقطاعًا عميقًا في مسيرة مالكوم المهنية، كما تقترح غالبًا الصور الشعبية عنه. مثل شيرلي غراهام ووليام إدوارد بورغاردت دو بويز، تأثر مالكوم إكس بشكل كبير بالعدوان الثلاثي الذي أعقب تأميم عبد الناصر لقناة السويس في عام 1956. يصف مانينغ مارابل أن مالكوم "راقب عن كثب هذه الأحداث، والتي حققت له النبوءة الإلهية التي تنبأت بالانحدار و سقوط القوة الأوروبية والأمريكية "(120). هكذا أوضح مالكوم إكس لجمهوره في المعبد رقم 7 أن "الرجل الأسود متحدٌ في جميع أنحاء العالم لمحاربة [الشياطين]" (مقتبس، في مارابل 120). ولتعزيز هذا التحقيق النقدي، تضع يوميات مالكوم مصر في سياق مناهض للاستعمار، حيث كانت نضالات الأمريكيين الأفارقة جزءًا من الأمر، بينما تؤكد أيضًا على التهديد الإمبريالي النابع من الغرب. في الواقع، فإن تهديد الاستعمار الجديد ليس بعيدًا عن ذهن مالكوم، على سبيل المثال، عندما أشار في لاغوس في مايو إلى أن "أباطرة الأعمال (الدوليين) [يتناولون] وجبة الإفطار، ويناقشون الثروة غير المستغلة لأفريقيا (كما لو أن النُدّل الأفارقة لا يملكون آذانًا" (يوميات 46). يحاول مالكوم تنظيم جبهة واسعة ضد هذا الخطر المتمثل في وجود عدو مشترك في شكل الرأسمالية الإمبريالية الغربية. يقيّم دولاتزاي أن تحديه للاستثنائية الأمريكية ونقده اللاذع للإمبريالية الأمريكية، "كشف أن الحرب الباردة كانت في الحقيقة مشروعًا لبناء إمبراطورية لوياثان[2] جديدة، وأن أمريكا كانت تحت ستار" الديمقراطية "و" معاداة الشيوعية " ستحل محل أوروبا كقوة إمبريالية فيما أشار إليه بـ "الاستعمار الخيري" أو "الإمبريالية الخيرية" "(4). خلال خطابه، الذي حمل عنوان "مناشدة رؤساء الدول الأفريقية"، حذر رؤساء الدول الحاضرين من أنه "لا أحد يعرف السيد أفضل من خادمه. لقد كنا خدمًا في أمريكا لأكثر من 300 عام. لدينا معرفة عميقة وداخلية حول هذا الرجل الذي يسمي نفسه "العم سام" (73). لذلك يجب فهم خطاب مالكوم في منظمة الوحدة الأفريقية على أنه تحدٍ مباشر لطموح الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط - وهي حقيقة تكررت وأُسهبت عندما نشر ديفيد غراهام دو بويز روايته حول سياق هذا الخطاب بعد عقد من الزمن.

بالتالي، فإن زيارات مالكوم إلى مصر عام 1964 تمثل لحظات محورية في تطور الفكر السياسي الأسود - ولكنها أيضًا فرص ضائعة. نقل مالكوم تجاربه المصرية إلى نشاطه الأمريكي، مثل ديفيد غراهام دو بويز بعد عقد من الزمان، وأنشأ منظمة وحدة الأمريكيين الأفارقة (OAAU) على غرار منظمة الوحدة الأفريقية (OAU). لقد خطط، كما قال بعد وقت قصير من خطابه في القاهرة، "لتدويل مشكلة الرجل الأسود، وجعلها غير محصورة بالزنوج أو أمريكا، بل مشكلة عالمية، مشكلة للإنسانية" ("عريضة" 81). وفي "خطابه حول تأسيس منظمة OAAU" في 28 يونيو 1964، في قاعة أودوبون بواشنطن هايتس (حيث سيتم اغتياله بعد أقل من ثمانية أشهر)، وصف كيف خلال رحلته الأولى إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، درس بعناية الدول المستقلة حديثًا للحصول على معادلة النجاح. وأكد أنه "قبل عشر سنوات فقط في القارة الأفريقية، كان شعبنا مستعمرًا"، مشيرًا إلى أنه "في وقت قصير، نالوا مزيدًا من الاستقلال، مزيدًا من الاعتراف، ومزيدًا من الاحترام كبشر مما لدينا أنت وأنا. بينما نعيش أنا وأنت في بلد يفترض أن يكون قلعة التعليم والحرية والعدالة والديمقراطية وكل تلك الكلمات الأخرى التي تبدو جميلة "(" خطاب "35).


[1]  لم يدرس ديفيد غراهام دو بويز في الجامعة الأمريكية بل في جامعة القاهرة. تعديلات الكاتب*

[2]  اللوياثان لوياتان، ليفياتان هو وحش بحري توراتي أشير إليه في العهد القديم (المزامير، أيوب، أشعياء). أصبحت كلمة لوياثان مرادفًا لأي وحش بحري هائل، ففي رواية موبي ديك، يشير اللوياثان إلى الحيتان الهائلة، فيما أصبحت الكلمة في العبرية الحديثة تعني الحوت ببساطة. 




* يتبع المقال الأسبوع القادم. 


درَّس بالتسار بيكيت في الجامعة الأمريكية في القاهرة، جامعة كاليفورنيا في بيركلي، جامعة ولاية سان فرانسيسكو وسجن ولاية سان كوينتين في منطقة الخليج، وفي كليتي بروكلين وكوينز في مدينة نيويورك. حاصل على درجة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية من جامعة مدينة نيويورك، مركز الدراسات العليا.












Comments