الرجل الصالِح، توماس سانكارا

شون جاكوبز




المقال التالي ترجمة لمقال كتبه شون جاكوبز في عام 2016، يتناول جزءًا من حياة المناضل والقائد الثوري توماس سانكارا (لُقب بـ تشي غيفارا أفريقيا) الذي تولى حكم دولة بوركينا فاسو لأربع سنوات عقب انقلاب عسكري لاقى تأييدًا شعبيًا كبيرًا في عام 1983، أجرى سانكارا خلال فترة حكمه إصلاحات كثيرة في سياسات البلاد، وسن قوانينًا تدعم حقوق النساء والطبقات الفقيرة. اغتيل توماس سانكارا عام 1987. اخترنا ترجمة هذا المقال لأنه يتحدث بشكل مباشر لمحاولتنا للتعرف على التاريخ الثوري في القارة  الأفريقية والقادة الذين  قادوا التغيير.





"يمكن قتل الثوار لكن أفكارهم لا تقتل".

توماس سانكارا


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


خلال هذا الشهر، كشفت مؤسسة باسم سانكارا خططًا لنصب تذكاري عام. حدث هذا بعد ما يقرب من 29 عامًا من مقتله خلال هذا الشهر ذاته وسنتين من فرار بليز كومباوري - الذي يعتبر أحد المسؤولين الرئيسيين عن مقتله - من البلاد.


خلال هذا الوقت ظل سانكارا مصدر إلهام للشباب الأفارقة وأولئك الأوفياء لمستقبل عموم أفريقي راديكالي. يجادل مناصروه ومعجبوه بأن السنوات الأربع منذ عام 1983م وحتى 1987م التي قضاها كرئيس لبوركينا فاسو أشارت بإيجاز لإمكانات مستقبل سياسي مختلف للأفارقة، ما بعد الاستقلال، الاستعمار الجديد والفجر الكاذب لـ "صعود أفريقيا".


أُعلن عن خطط إنشاء النصب التذكاري والمتحف في ندوة عقدت في واغادوغو على شرف سانكارا وحضرها ما يقرب من 3000 شخص. كما ذكرت بي بي سي: "قدرت تكلفة النصب التذكاري المقترح بحوالي 8 ملايين دولار (6.2 مليون جنيه إسترليني) وسيتم تمويله بواسطة مساهمات صغيرة من مؤيدي الرئيس السابق لبوركينا فاسو".


اقتحم مسلحون مكتب سانكارا في 15 أكتوبر 1987، وقتلوه هو و 12 من مساعديه في انقلاب عنيف. في أحداث تطابقت بشكل مخيف مع تلك التي حدثت في الكونغو قبل 27 عامًا (حيث أودت مؤامرة من وكالات المخابرات الأوروبية وعملائها الكونغوليين بحياة باتريس لومومبا)، قَطَع المهاجمون جثة سانكارا ودفنوا رفاته في قبر معد بعجالة. في اليوم التالي، أعلن كومباوري، الذي كان نائب سانكارا، نفسه رئيسًا. استمر كومباوري في حكم البلاد حتى عام 2014، عندما أُجبر على الفرار من البلاد بسبب انتفاضة شعبية. بين عامي 1987 و 2014، حاول كومباوري استمالة العامة وتشويه ذكرى سانكارا وتقديم الوعود بتقديم قاتليه إلى العدالة. لكن لم يحدث شيء من ذلك.


لم تجذب بوركينا فاسو (التي عرفت باسم فولتا العليا حتى عام 1984) الكثير من الاهتمام خارج غرب إفريقيا حتى أطاح سانكارا بالقيادة العسكرية الفاسدة والمبتذلة للبلاد في عام 1983. (تجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو حكمت بواسطة ديكتاتوريات عسكرية لـ 44 عامًا على الأقل منذ استقلالها عن فرنسا. عمل أعضاء الجيش قبل سانكارا بشكل أساسي كوكلاء للمصالح الفرنسية في المنطقة. حدث انقلاب قصير لمدة أسبوع واحد، بعد عام من فرار كومباوري، لكن البلاد الآن صار يحكمها الديمقراطيون ولا زالوا يضعون دستورًا جديدًا منذ ذلك الحين).


مثل لومومبا - الزعيم السياسي المبدئي السابق الذي كان ضحيّة للحرب الباردة - أثبت سانكارا أنه سياسي مبدع وغير تقليدي. فقد أراد أن يرسم مخططًا "طريقًا ثالثًا" منفصلًا عن مصالح القوى الكبرى (في حالته، فرنسا، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة). أسفر ذلك على كل حال عن إرث معقد، حيث وجد أولئك الذين يمدحون إصلاحاته الاجتماعية والاقتصادية - التي ستناقش أدناه - صعوبة في مواءمتها مع سياساته غير الديمقراطية أحيانًا كثيرة.


قال سانكارا عن فلسفته السياسية في عام 1985: "لا يمكنك تحقيق تغيير جوهري دون قدر معين من الجنون. في هذه الحالة، يأتي من الاِنفِصالِيَّة، الشجاعة لإدارة ظهرك للصيغ القديمة، الشجاعة لاختراع المستقبل. تطلب الأمر مجانين الأمس لنتمكن من التصرف بوضوح شديد اليوم. أريد أن أكون أحد هؤلاء المجانين. يجب أن نتجاسر لابتكار المستقبل".


ربما يكون الفيلم الوثائقي "توماس سانكارا: الرجل الصالِح"، للمخرج البريطاني روبن شوفيلد، أفضل رواية فيلمية عن صعود سانكارا وأسلوب حكمه وإصلاحاته وقتله لاحقًا. كما أنه يعطي بعض المنطق لسؤال لماذا - على عكس لومومبا بين مواطني العالم الثالث أو نيلسون مانديلا بين النخب الغربية - لا يذكر الكثيرون خارج غرب أفريقيا (والآن الطلاب في جنوب أفريقيا) سانكارا كثيرًا هذه الأيام (باستثناء أولئك الذين لديهم معرفة واسعة بالسياسات الأفريقية ما بعد الاستعمار).


تحدى سانكارا علنًا كلا من الهيمنة الفرنسية في غرب أفريقيا وكذلك زملائه القادة العسكريين (ووصفهم بأنهم "مجرمون في السلطة"). دعا إلى إلغاء ديون أفريقيا للبنوك الدولية، وكذلك لسادتها الاستعماريين السابقين. شاهد المقاطع العديدة التي يفعل فيها ذلك بالضبط في المناسبات العامة في هارلم أو نيويورك أو أديس أبابا.


كانت إصلاحاته ذائعة، سواء على المستوى الرمزي أو من حيث الإصلاحات السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، في عام 1984 قام بتغيير اسم البلاد من فولتا العليا، وهو الاسم الذي بقي من الاستعمار، إلى بوركينا فاسو. يُترجم الاسم الجديد للبلاد بــ "أرض الشعب الصالِح".


وعظ سانكارا بالاعتماد على الذات اقتصاديًا. تجنب قروض البنك الدولي وشجع إنتاج المواد الغذائية والمنسوجات المحلية. (هناك مشهد كلاسيكي في الفيلم الوثائقي لشوفيلد يظهر فيه وفد بوركينا فاسو بأكمله في اجتماع منظمة الوحدة الأفريقية مزينًا بالمنسوجات والتصاميم المحلية).


حظر سانكارا دفع الاِتاوة والعمل الإجباري لرؤساء القرى، ألغى ضرائب الاقتراع الريفية، أسس برنامج تطعيم شامل، شيد السكك الحديدية وبدء بناء المساكن العامة. دفعت إدارته بشدة لبرامج محو الأمية، عالجت العمى النهري وباشرت حملة لمكافحة الفساد في الخدمة المدنية.


استفادت النساء، الفقراء والفلاحين في الأغلب من هذه الإصلاحات. عززت إدارته المساواة بين الجنسين في مجتمع يهيمن عليه الذكور بشكل كبير (بما في ذلك تحريم ختان الإناث وتعدد الزوجات). وكما قال سانكارا لجمهور محلي في عام 1984: "تنزل [النساء] إلى المرتبة الثالثة اجتماعيًا، بعد الرجل والطفل - وتكبح باستبداد تمامًا مثل العالم الثالث، ويرى الجميع أن من الأفضل السيطرة عليها واستغلالها".


كان سانكارا قانطًا عن الرفاهيات التي تأتي مع المكتب الحكومي وحثّ الآخرين على فعل الأمر ذاته. كان يتلقى راتبًا صغيرًا (450 دولارًا في الشهر)، رفض وضع صورته في المباني العامة، ونهى وزرائه وكبار موظفي الخدمة المدنية عن استخدام سيارات المرسيدس التي يقودها سائق وتذاكر طيران الدرجة الأولى.


لكن نظام سانكارا لم يكن محصنًا ضد الممارسات غير الديمقراطية. فقد حَظر النقابات العمالية والأحزاب السياسية وأخمَد الاحتجاجات (أبرزها احتجاجات المعلمين في عام 1986). وقع العديد من الأشخاص ضحايا للأحكام العاجلة الصادرة عن المحاكم الثورية الشعبية، والتي حكمت على "العمال الكسالى" و "معادي الثورة" والمسؤولين الفاسدين. أقر سانكارا نفسه أمام الكاميرا في وقت لاحق، بأن المحاكم كانت تُستخدم غالبًا كفرصٍ لتصفية حسابات خاصة.


صار سانكارا معزولًا سياسيًا بحلول عام 1987. تبرم منه أعداؤه، الذين كانوا مزيجًا من المؤسسة السياسية الفرنسية (فقد أهان الرئيس فرانسوا ميتران علانية في بضع مناسبات) والزعماء الإقليميين (مثل الرئيس الإيفواري فيليكس هوفويت بوانيي).


اِتُهم كومباوري كثيرًا بأنه أمر بقتل سانكارا لخدمة الديكتاتوريين الفرنسيين والإقليميين. رغم أن كومباوري تظاهر بالحزن علنًا على سانكارا ووعد بالحفاظ على إرثه، إلا أنه سرعان ما شرع في تطهير الحكومة من أنصار سانكارا.


رحبت الحكومات الغربية ووكالات التمويل بكومباوري، على عكس الاستقبال البارد الذي حظي به سانكارا سابقًا. خلال ثلاث سنوات، قبل كومباوري قرضًا ضخمًا من صندوق النقد الدولي وبدء برنامج تعديل هيكلي (والذي يُنظر إليه إلى حد كبير كأحد الأسباب الرئيسية للأزمات الاقتصادية الجارية في أفريقيا). عكس كومباوري معظم إصلاحات سانكارا. ليس من المستغرب أن يتضمن ذلك الإصرار على تعليق صورته في جميع الأماكن العامة وكذلك شراء طائرة رئاسية لنفسه.


أثبت كومباوري ممانعة للتحقيق في وفاة سانكارا بشكل كامل أثناء وجوده في السلطة. وأرادت حكومته "المُضي قدمًا". حاول كومباوري - الذي تورط نظامه في حروب أهلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية وكوت ديفوار وليبيريا - أن يظهر بمظهر "ديمقراطي" (كما فاز بسلسلة من الانتخابات في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين)، وكان حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة.


بعد أن فر كومباوري من البلاد في عام 2014، وجهت إليه و 14 من كبار ضباط الجيش، لائحة اتهام بسبب دورهم في مقتل سانكارا. ورغم ذلك، فقد توقفت القضية.


احتجاجات عام 2014 مع صور لسانكارا على قمصان المتظاهرين


كتبت ماتيلد مونبيتيت على أفريكا إز أي كانتري في يوليو 2015، أن سانكارا كان مصدر إلهام أساسي للمحتجين المناهضين لكومباوري، حتى أن بعضهم عرفوا باسم "جيل سانكارا". تساءلت مونبيتيت بصوت عالٍ عن الاهتمام المتجدد بسياسات التحرير التي يمثلها سانكارا. هل يشير هذا الاهتمام المتجدد إلى اهتمام متجدد بالاشتراكية، أم أنه مجرد إدراك شعب يبحث عن زعيم بعد نهاية حقبة سياسية؟ قد يظل سانكارا ببساطة تشي غيفارا بوركينا فاسو، في موت يمثل صورة سخط البوركينابي المناهض للاستعمار الذي ليس من الضروري أن يكون متوافقًا مع أفعال أو أيديولوجية الأشخاص الذين وضعوا صورته على قمصانهم وجدرانهم.


رغم ذلك، فقد أشارت ندوة نهاية هذا الأسبوع إلى أن سانكارا لا يزال حاضرًا بشكل حقيقي بالنسبة للحركات الاجتماعية (وبعض الحكومات) في أفريقيا. كان من بين الحاضرين، على سبيل المثال، نشطاء من "مكنسة المواطن"، وهي حركة شعبية لعبت دورًا في انتفاضة 2014 في بوركينا فاسو، وكذلك فيدل بارو، أحد قادة "سئمنا" في السنغال. قال وزير الثقافة في بوركينا فاسو للجمهور: "أولئك الذين قتلوا توماس سانكارا قطعوا الشجرة ببساطة، ونسوا الجذور. لكننا نعلم الآن، أن قوة شجرة التبلدي تكمن في جذورها. مهما فعلوا، سيظل توماس سانكارا حيًا إلى الأبد". ومع ذلك، فقد أصرت مؤسسة بناء النصب التذكاري والمتحف أن يتم بناؤه بجهود الشعب وليس الدولة.


الكلمة الأخيرة تذهب إلى بارو الذي أخبر مراسل وكالة فرانس برس: "هناك سانكارا للاقتصاد، سانكارا ثقافي، سانكارا طليعي، سانكارا لإضفاء طابع ديمقراطي على السلطة [السياسية]، سانكارا لحرية الفكر والتعبير. لقد كان كل أولئك السانكارا هم من أعجب بهم الشباب لأنهم يريدون أن تمضي أفريقيا إلى الأمام. إنهم بحاجة إلى أن تصبح أفريقيا مستقلة. يتجاوز سانكارا بوركينا فاسو، لأنه كنز أفريقي وعالمي".



** تم نشر المقال في الأصل في موقع Africa Is a Country وهو موقع للرأي والتحليل والكتابة الجديدة.






شون جاكوبس ، مؤسس ومحرر في مجلة أفريكا إز أي كانتري، عضو في هيئة التدريس في المدرسة الجديدة وزميل شاتلوورث













Comments