المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية: جدْب وفوْرة العمل الثقافي في أفريقيا الستينات

 



المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية

جدْب وفوْرة العمل الثقافي في أفريقيا الستينات 





التقت إيديولوجيات العروبة مع العموم أفريقية في لحظات نادرة. على الرغم من التاريخ المشترك للنضال من أجل التحرر من الاستعمار، ظل هناك الكثير من عدم الفهم والتوتر التاريخي. نحاول في هذا المقال أن نقدم باختصار مهرجان الثقافة العموم أفريقية في الجزائر والذي نتج عنه المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية. بمتابعة بحث دومينيك مالاكيه وسيدريك فينست الاستثنائي عن مهرجانات العموم أفريقية في القارة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، وبالتركيز على مهرجان الفنون العموم أفريقية في الجزائر سنة 1969، رأينا أن التناقض بين المستوى الرسمي والتنظيمي للحدث في هيئته الحكومية وبين النشاط الثقافي الفعلي على الأرض قد يكون نقطة بداية جيدة للحديث عن تلك الفعاليات الثقافية الجامعة. ربما يتبدى هذا التناقض من انفصال الأنشطة الثقافية الجماهيرية كالعروض الراقصة والأفلام والمسرحيات، والتي دار أغلبها في وسط المدينة، ومكان وقوع فعاليات السمبوزيوم الذي ضم وفود وزارات الثقافة والممثلين الحكوميين وشهد نقاشات حامية حول آليات التخلص من الهيمنة الاستعمارية والثقافية وخيارات سياسات التنمية المتبعة في مختلف البلاد. جرت أغلب اللقاءات غير الرسمية في أماكن مختلفة من وسط المدينة وضمت فنانين وكتاب وشعراء ومترجمين وسياسيين من الحكومات المستقلة حديثًا ومنظمات التحرير التي لازالت في طور النضال من أجل التحرر الوطني.

أتى العديد من المثقفين من المغرب الكبير وغرب أفريقيا وأمريكا اللاتينية، على المستويين الرسمي وغير الرسمي في المهرجان، حيث تقابل محررو وكُتاب أهم المجلات الثقافية النشطة في ذلك الوقت. أقدمهم Presence Africaine والتي أسسها أليون ديوب في 1947 ونشرت أعمال عثمان سمبين الأدبية وكتابات بولين فييرا وتأريخ شيخ أنتا ديوب وغيرهم، كما ترجمت أعمال أدباء ومفكرين من أفريقيا الانجلوفونية وكذلك من أمريكا اللاتينية. أما في الجانب الأنجلوفوني فقد كانت مجلة Black Orpheus مركزًا مهمًا لنشر كتابات أدباء مثل الشاعر النيجيري جابرييل أوكارا والغانية أما أتا أديو وغيرهم، وبنت جسرًا ضروريًا لترجمة أعمال ليوبولد سيدار سنجور وإيمى سيزار للإنجليزية. يأتي عنوان المجلة ذاته من افتتاحية  جان بول سارتر لكتاب سنجور عن الشعر الأفريقي. أما من الناحية الأخرى للمحيط، أتى إلى الجزائر رينيه ديبستر وهو شاعر هاييتي ومؤسس دار النشر Casa de las Américas ومساهم أساسي في مجلتها التي اهتمت بأفريقانية سيزار وسنجور دعمًا ونقدًا. ومن المغرب، فقد أتى مؤسس مجلة Souffles عبد اللطيف اللعبي أيضًا. نشرت المجلة الفرنكوفونية من مقرها في الرباط كتابات لرينيه ديبستر وسيزار وغيرهم. أسهمت تلك المنابر في خلق خطاب حول الأفريقانية والعموم الأفريقي والأدب المحلي وسياسات الكتابة بلغة المستعمر واللغات المحلية، كما عملت كدور نشر أحيانًا للأدب الثوري الأفريقي الجديد.



كمقدمة عن الجزائر في يوليو 1969، فقد كان انقلاب بومدين في 1965 يبحث عن تدعيم موقفه داخليًا وخارجيًا كلاعب مهم في معسكر عدم الانحياز وكقِبلة لحركات التحرير في العالم للحصول على الدعم المادي والعيني لنضالاتهم، خاصةً بعد هزيمة 1967 والتي أخرجت القاهرة من الضوء قليلًا كمركز عربي/أفريقي لنضالات التحرير ودول العالم الثالث. حظيت أغلب حركات التحرير على مكاتب في الجزائر، كما اجتذبت أطياف تحررية عالمية عديدة تصل إلى أمريكا وأوروبا والكاريبي، نظرًا لوجود فرانتس فانون هناك. لذلك عندما جاءت توصيات مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية في كينشاسا في 1967 لإقامة مهرجان ثقافي للعموم أفريقية، استضافت الجزائر أول نسخة لمهرجان الثقافة والفنون العموم أفريقية PANAF69.

شهدت الجزائر مظاهرات في الجامعة بعد الانقلاب وتم قمعها بقوة، كما أصبح واضحًا الاتجاه العروبي البعثي/الناصري في صفوف نظام بومدين وكذلك سياسات الصوت الواحد المعبر عن النضال الوطني والذي همش الأمازيغ سياسيًا وثقافيًا وقمع التنظيمات السياسية اليسارية المعترضة على مآل ثورة التحرير وما انتهت إليه من نظام عسكري.

في 1967، وقف سنجور في جامعة القاهرة يتحدث عن الجامع المشترك في قلب الحضارة الأفريقية السوداء ويمد جسرًا بينها وبين الحضارة الفرعونية المصرية ليُغازل نقاشًا محليًا قائمًا في هذا الوقت حول تجربة القومية العربية والهوية المصرية. أما في الجزائر فقد وجهت العديد من الوفود في المقر المنعزل للسمبوزيوم نقدًا حادًا لأفريقانية سنجور مع اتهامات صريحة بالتواطؤ مع المستعمرين السابقين. كان هذا المهرجان تحديدًا نقطة التقاء ساخنة بين أيديولوجيات متنوعة: الأفريقانية "الزنوجة" وبين العموم أفريقية، وبحدوثه في الجزائر لم يكن من الممكن تجنُب الوحدة العربية بُبعدها الإسلامي. سيحاول محمد الصديق بن يحيى، وزير الثقافة الجزائري ورئيس المؤتمر، تهدئة الموقف والتذكير بالنضالات المشتركة والهوية الأفريقية الجامعة، ولكن سيغلب الطابع العموم أفريقي وتفضيل النضال المسلح كأيديولوجية تحمل مشروعًا اجتماعيًا على الخيارات الأيديولوجية الأخرى وأهمها أفريقانية "زنوجة" سنجور. عقِب الجلسات الافتتاحية الساخنة، انقسم السمبوزيوم إلى لجان فرعية تناقش الأوضاع الثقافية في بلادها، سيطر على تلك المناقشات مثل أغلب المناقشات الثقافية القائمة في ذلك الوقت، ثنائية الأصالة والحداثة. صدر في نهاية السيمبوزيوم "المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية" والذي تضمن ثلاث ثيمات رئيسية: واقع الثقافة الأفريقية ودور الثقافة في دعم التحرر وتدعيم الوحدة الأفريقية ودور الثقافة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت.



بشكل عام فإن المانيفستو وثيقة تُكتب بشكل جماعي، وبذلك تعكس مجموع المفاوضات بين الأطراف المختلفة. هي أيضًا كتابة تتعاطى مع الواقع بشكل متدخل ومباشر، إنها كلمات لا تريد فقط الكشف عن مساوئ الوضع القائم ولكنها تقترح آليات تغييره. يظهر جليًا في المانيفستو ربط الثقافة بأدوات إنتاجها المادية، ويعّرف الاستعمار ليس فقط كسيطرة اقتصادية ولكن بالأساس كهيمنة ثقافية يمارسها المحتل، تعززها أفكار النخب البورجوازية المحلية المتعلمة في مدارس وجامعات المحتل. يظهر المانيفستو أيضا كيف تتشارك أغلب الدول المستقلة حديثًا في البحث عن جذور ثقافية تصلهم بتاريخهم المقتطع كولونياليًا ولكنهم واعيين تمامًا لحتمية خلق الثقافة الوطنية كبناء جديد، يجمع بين التراث والتطور.

ننشر هنا قريبًا ترجمة المانفيستو الثقافي للعموم أفريقية، كما سنأتيكم بالمزيد من الكتابات والترجمات عن النشاط الثقافي الأفريقي والأفرو-آسيوي في الستينات وتناقضاته. نتتبع في تلك المواد تواريخ مساحات التقت فيها أيدولوجيات مختلفة، وأنتج المناخ العام في لحظتها آليات إنتاج وتوزيع وعرض للإنتاجات الثقافية، نرى أنها تستحق الزيارة وإعادة التفكير.












Comments