المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية





كما تناولنا في المقال السابق "المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية: جدْب وفورْة العمل الثقافي في أفريقيا الستينات"، فقد شهدت القارة خلال تلك الفترة العديد من الأنشطة الثقافية التي كان أحدها مهرجان الجزائر للفنون العموم أفريقية في عام 1969، والذي تنوعت الفعاليات فيه بين أفلام ومسرحيات وعروض راقصة وغيره، وخرج منه أيضًا المانيفستو الثقافي للعموم أفريقية الذي ترجمناه هنا. كُتب هذا المانيفستو بشكل جمعي وعبر جليًا عن الأخوية الثورية، الطموحات المشتركة والنضالات المتجاوزة للحدود للقضاء على الاستعمار وتبعاته التي أثرت على الثقافة والهوية الأفريقية.




الجزء الأول |




(منظمة الوحدة الأفريقية: المهرجان الثقافي لكل الأفارقة، الجزائر، يوليو/أغسطس 1969م)


انطلاقًا من تأمل ودراسة ومناقشة الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه فخامة السيد هواري بومدين، رئيس المجلس الثوري، رئيس مجلس الوزراء في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، والرئيس الحالي لمؤتمر رؤساء دول وحكومات منظمة الوحدة الأفريقية، ناقشت ندوة المهرجان الثقافي الأفريقي الأول المنعقد في الجزائر العاصمة في الفترة من 21 يوليو إلى الأول من أغسطس 1969 موضوع الندوة:


  • حقائق الثقافة الأفريقية

  • دور الثقافة الأفريقية في نضال التحرير الوطني وفي تأسيس الاتحاد الأفريقي.

  • دور الثقافة الأفريقية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا.


حقائق الثقافة الأفريقية


تبدأ الثقافة بالناس كخالقين لذواتهم ومغيرين في بيئتهم.

الثقافة في جانبها الأوسع والأكثر كمالًا، تسمح للناس بإعطاء شكل لحياتهم.


لا يتم تلقيها بحرية بل يتم بناؤها بواسطة الناس. إنها رؤية الإنسان والعالم، وبالتالي فهي أنظمة فكرية، فلسفات، علوم، معتقدات، فنون ولغات.


وبالمثل فإنها اشتغال الإنسان على نفسه وعلى العالم لتغييره، لذا فإنها تشملُ المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتقنية.


الثقافة ديناميكية بالأساس: بكلمات أخرى فهي متجذرة في الناس وموجهة نحو المستقبل.


يجب أن نعود إلى مصادر قيمنا، دون أن نقصر أنفسنا عليها، وأن نقوم بجرد للتخلص من العناصر العتيقة والمُفسِدة، والعناصر الأجنبية الزائفة والمُجافية التي أتى بها الاستعمار، والاحتفاظ فقط بالعناصر التي لا تزال صالحة، تحديثها وإثرائها بفوائد الثورات العلمية والتقنية والاجتماعية حتى تتماشى مع ما هو حديث وعالمي.


الاستعمار شر عانى منه وتحمله كل أفراد شعبنا، أولًا في تجارة الرقيق، أكثر أشكاله تحديدًا، والتي دمرت القارة الأفريقية كلها تقريبًا، وفي الهيمنة السياسية، أكثر أشكاله المحسوسة والوقحة، والتي يجب علينا أن نناضل للانتصار عليها.


لكن آليته معقدة ولا يمكن تبسيطها في عملية واحدة. من الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعروفة أن الاستعمار عمل شامل في جوهره وروحه. ومن أجل البقاء عليه أن يبرر نفسه أخلاقيًا وفكريًا بالقوة والإكراه لتوسيع سيطرته على جميع مجالات النشاط البشري.


ولكي يوجد بهذا الشكل، يجب أن يمارس سيطرة اجتماعية وفكرية، إضافة إلى هيمنته المحسوسة والمادية - خاصة على الطبقات الحاكمة التي يعتمد عليها.


بِالتّبَعية فإنه يعتقد أن بإمكانه أن يتحدى الرجال دون عقاب وينكر ماهيتهم.


آمنت شعوب أفريقيا وشعرت ببَداهةً أن الحرية هي ذاتها السيادة القومية، وأن رفاه وتقدم شعبنا يجب أن يتم من خلالنا. وبطبيعة الحال قبلوا أن الحرية، الأمة والهوية هي أساسًا أصل الثقافة ونتاجها.


الثقافة هي الباطُون الأساسي لكل فئة اجتماعية، أداتها الأساسية للتواصل والتصدي للعالم الخارجي: إنها روحها وتجسدها وقدرتها على التغيير.


وهكذا فإن الثقافة هي مجموع الأدوات المحسوسة وغير المحسوسة، الأعمال الفنية والعلمية، المعرفة والدراية، اللغات، أنماط التفكير، أنماط السلوك والخبرة التي اكتسبها الناس خلال جهودهم التحررية للسيطرة على الطبيعة وبناء مجتمع متحسن دائمًا.


أنتجت الثقافة المفروضة عمومًا مثقفًا أفريقيًا منفصلًا عن حقائقه الوطنية بسبب الاستلاب والعزلة.


يجب على رجل الثقافة الأفريقي، الفنان، المثقف بشكل عام أن يندغم في شعبه ويتحمل المسؤوليات الإلزامية الملقاة على عاتقه. يجب على أفعاله أن تلهم التحول الجذري للعقل والذي بدونه يستحيل على الشعب التغلب على التأخُّر الاقتصادي والاجتماعي. يجب أن يكون الشعب أول مستفيد من ثرواته الاقتصادية والثقافية.


الثقافة هي مجموع الخبرات والتعبيرات المادّية المرتبطة بتاريخ الشعوب. وبالتالي، يجب على الثقافة، من وجهة نظرنا، أن تتضمن المُفردات الدقيقَة التي تميز كل حضارة كبرى. لكن أفريقيتنا تحدد بالتشابهات العميقة والطموحات المشتركة.


تخضع الأفريقية لقانون الديالكتيك الخاص والعام للخُصوصانيّة والعالميَّة، بعبارة أخرى، تنوع في الأصل ووحدة في الوجهة.


لا تختلف الثقافة والفنون والعلوم الأفريقية، باختلاف تعابيرها، جوهريًا عن بعضها. إنها ليست سوى تعبير محدد عن عالميَّة واحدة.


إلى جانب التشابهات والأشكال التقارُبيّة للفكر، والتراث المشترك، فإن الأفريقية أيضًا مصير مشترك، إِخوانيَّة النضال التحرري ومستقبل مشترك يجب أن يتخيله الجميع لنتمكن من إتقانه. تنبع الأفريقية من المصدر المزدوج لتراثنا المشترك ومصيرنا المشترك وهذا هو السبب في أنها مُستحقة. وفي المرحلة الحالية من تطورنا التاريخي، يجب أن ندرس عددًا من المشاكل المرتبطة بأصل ثقافتنا ووجودها وتطورها.


الثقافة وسيلة ديناميكية لرفع الأمة فوق الانقسامات القبلية أو العرقية والوحدة الأفريقية فوق كل أشكال الشوفينية. ربما صُودرت الثقافة التي خلقها الشعب بواسطة الطبقة المسيطرة. لكن يجب أن تكون الثقافة الآن بحثًا مستمرًا عن الوعي الإبداعي للناس. لذلك ينبغي أن تقوم أي سياسة ثقافية أفريقية على ضرورة تمكين الناس من أن يصبحوا واعين ومتعلمين، معبئين ومنظمين لجعلهم مسؤولين عن تراثهم الثقافي وتنميته. لقد أنقذ الحفاظ على الثقافة الأفارقة من محاولات تحويلهم إلى شعوب بلا روح ولا تاريخ. حمتهم الثقافة. من الواضح تمامًا أنهم سوف يرغبون من اليوم فصاعدًا في استخدامها في تقدمهم وتطورهم، لأنه إذا كانت الثقافة - الخلق الدائم والمستمر - هي تعريف للهويات ورابط بين الناس، فإنها تعطي أيضًا دفعة للتقدم. هذا هو السبب في أن أفريقيا كرست هذه الرعاية ولَاءَمت هذه القيمة لاستعادة تراثها الثقافي، للدفاع عن هويتها وإنشاء فروع جديدة لثقافتها.


سيكون سهلًا على بعض الأشخاص ومريحًا لآخرين لو لم نضع شروط استقلالنا السياسي - كان من الممكن أن نصبح راضين فحسب ونستعير الفكر، اللغة والفن من أولئك الذين كانوا محظوظين للاستمتاع بتطور داخلي متناغم. ربما كنا سنرضى أيضًا بالماضي الثقافي الفولكلوري، ثقافة الرجل الفقير، ونتخلى عن كل أفكار الحرية الحقيقية والاستقلال الحقيقي، لكن الشعوب المستعمَرة لم تتخلَّ أبدًا عن هويتها الجُوانيّة.


تلعب اللغة الوطنية دورًا استثنائيًا في هذا الأمر، فهي الدعامة الأساسية ووسيلة الثقافة، ضمانة الدعم الشعبي في كل من إنشائها واستهلاكها.


حالما استعدنا سيادتنا، كان الواجب الأساسي الأول بالنسبة لنا إحياء اللغات الوطنية الموروثة من أجدادنا، دون التشكيك بأي شكل من الأشكال في الوحدة العميقة لشعوبنا.


اللغة واحدة من هذه الخصائص في حياة الشعوب التي تجسد عبقريتهم.


تتطور معهم، ولا يمكن حرمانهم منها دون أن إخراجهم جرحى ومعاقين.


ومع ذلك، لأجل النجاة والقتال، كان على جزء من شعوبنا تعلم لغة مستعمرينا.


لا توجد لغة واحدة ملاءمة أكثر من غيرها لتكون الدعامة الأساسية للعلم والمعرفة. اللغة تترجم وتعبر عن حياة وأفكار الناس.


منذ أن عُطِل تطورنا، ووطئت ثقافتنا بالأقدام وصار تعليم لغاتنا ممنوعًا في كثير من الأحيان، كان من الواضح أننا يجب أن نضاعف جهودنا لجعل اللغات الأفريقية أدوات فعالة لتقدمنا.


يكشف لنا تحليل حقائقنا الثقافية عن العناصر الديناميكية في حياة الشعوب، من الناحيتين الروحية والمادية.


من بين هذه العناصر التي شكلت شخصيتنا الأفريقية المَنِيعة، يجب أن نؤكد على هذه القيم التي أتتنا على الرغم من تقلبات تاريخنا والمحاولات الاستعمارية لاِستلابنا. ومنها يمكن تلخيص حس أخلاقي يكشف عن إحساس عميق فطري بالتضامن، الحفاوة، المساعدة المتبادلة، الإِخوانيَّة، والشعور بالانتماء إلى نفس الناسُوت.


هذه القيم وهذا الحس الأخلاقي يتجسد في لغاتنا الأفريقية، في آدابنا الشفهية والمكتوبة، في مَروِيّاتنا، أساطيرنا، أقوالنا وأمثالنا، التي تنقل الحكمة والخبرات التي طورتها شعوبنا.


ستضع معرفة تاريخنا علميًا أسس هويتنا وبالتالي تؤسس عاملاً للتقدم، مما يمكننا من إظهار قدراتنا ودراسة إمكانياتنا.


إن طرق تنظيم المجتمع الأفريقي دروس لنا وسوف تمكننا من أن نكون أنفسنا بينما ننضم إلى العالم الحديث.


عبقَريَّة تقنياتنا، لو أن هناك حاجة لذكرها، تظهر قدرتنا الإبداعية.


إن فنوننا، لوحاتنا، منحوتاتنا، عِمارتنا، موسيقانا، أغانينا، رقصاتنا وألعابنا هي شهادة على وجودنا ووجود ثقافتنا.


هذه الثقافة، التي لطالما اعتبرها الاستعمار همجيّة ونفاها إلى المتاحف فقط، هي تعبير حي في عالم اليوم. هذا العالم الذي نريد أن نأخذ مكاننا فيه والمستقبل الذي لدينا مهمة لنبنيه، تهيمن عليه مشاكل التنمية والتقدم.


نؤكد من جديد على أن ثقافتنا ستكون بلا حياة إذا تجاهلت العلوم والتكنولوجيا الحديثة. لذلك تتطلب مساهمة شخصية أصلية لنفس التراث ونفس التقدم الديناميكي والحزم الاجتماعي.



دور الثقافة الأفريقية في نضال التحرر والوحدة الأفريقية


من الواجب على الدول الأفريقية الرد على الاستعمار الكامل بنضال تحرير كامل.


إن وحدة أفريقيا متجذرة قبل كل شيء في التاريخ. لقد وجدت البلدان الأفريقية نفسها في نفس الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي تحت السيطرة الاستعمارية. استلزمت الهيمنة الثقافية مَسخ هوية جزء من الشعوب الأفريقية، قُمِع تاريخهم، تحقِير قيمهم الدينية والأخلاقية بشكل منهجي، استبدال لغتهم بشكل تدريجي ورسمي بلغة المستعمر، مما جعلهم بلا حول ولا قوة وحرمهم من سبب وجودهم.


بالتّالي، فإن الثقافة الأفريقية، رغم كبح تطورها على مستوى الجماهير، فقد تم تكريسها من خلال لغتها، آدابها، أغانيها، رقصاتها، معتقداتها وما إلى ذلك ... ولكن على الرغم من الاستهانة التي عانت منها، فقد كشفت الثقافة الأفريقية عن نفسها باعتبارها مِتْراسًا حيويًا لمناهضة التدخل الاستعماري وبهذه الطريقة صمدت أمام اختبار الزمن جنبًا إلى جنب مع الروح الأفريقية.


فضل الاستعمار تكوين نخبة ثقافية لاستيعاب وتشرب الثقافة الاستعمارية، للحفاظ عليها والعمل كضامن لها. لذلك، فقد كان هناك قَطِيعَة جديّة وعَمِيقة بين النخبة الأفريقية والجماهير الشعبية الأفريقية.


سمح الاستمساك بمفاهيم الحرية، الاستقلال والسيادة القومية بوضع الصراع في سياقه الحقيقي. زالت الثقافة المزدوجة مع ظهور حركات التحرير، حروب الاستقلال والمعارضة الحازمة والثابتة للاسترقاق الاستعماري.


وفر نضال أفريقيا الهياكل المادية والروحية التي من الممكن أن تتطور الثقافة الأفريقية عبرها وبالتالي فقد أثبتت التَداخُل الديالكتيكي الطبيعي بين التحرر الوطني والثقافة.


كانت الثقافة وستظل سلاحًا بالنسبة للبلدان الأفريقية التي نالت حريتها ولأولئك الذين لا زالوا في صراع مسلح مع القوى الاستعمارية. بكافة الأحوال، فقد كان ولا زال الكفاح المسلح لأجل التحرير فعلًا ثقافيًا بارزًا.


تدل تجربة حركات التحرر على أن اندماج المثقفين في الجماهير يعطي أصالة كبيرة لعملهم وينعش الثقافة الأفريقية.


الحصول على الاستقلال الحقيقي والنضالات المسلحة التي لا تزال جارية سمحت بنهضة ثقافية. أصبح النضال من أجل الحرية، بجميع أشكاله، من الناحية المنطقية العامل الدائم للأفريقية الثقافية. وهكذا فإن الأفريقية هي حقيقة مستمدة أساسًا من الناس الذين ولدوا من نفس الأرض ويعيشون في نفس القارة، وملتزمون بتشارك المصير ذاته من خلال عملية إنهاء الاستعمار الحتمية على جميع المستويات والتحرير الكامل، بغض النظر عن الخصوصيات الإقليمية أو الوطنية. لأنهم متورطون في نفس النضال، لأنه شرط أساسي للتحرر الوطني والقاري، باختصار، لأنه الدافع الأساسي والأخير للإنسان ولأنه وحده الذي سيشكل غالبًا الأساس الأول لمقاومة التهديدات المعلقة. أفريقيا، الأفريقية تتجاوز الاهتمامات الوطنية والإقليمية.


تتطلب حاجات أفريقيا الحالية من الفنانين والمثقفين التزامًا راسخًا بالمبادئ الأساسية لأفريقيا ورغبتها في الحرية. يجب أن يكون العمل الثقافي اليوم في قلب السعي لأجل الأصالة ولتطوير القيم الأفريقية.


تدعو السياسة الثقافية للاستعمار الجديد إلى تحليل نقدي موضوعي ومحسوس لوضعنا الثقافي الحالي. لقد تصور الاستعمار الجديد، الذي يدرك الجوانب السلبية لهذا الوضع، شكلاً جديدًا من أشكال العمل المنسق جيدًا، والذي، على الرغم من أنه لم يعد عنيفًا، إلا أنه لا يقل تهديدًا وخطورةً، دهاءً وخبثًا عما كان عليه بالنسبة لتطور وثقافة المستقبل في أفريقيا.


تهدد الأخطار الحقيقية ثقافتنا فيما يتعلق بكل من ارتكاب الأعراف الدخيلة وتلك المتعلقة بالنماذج العقلية للمؤسسات والحياة السياسية.


لذلك يجب أن تحل جبهة ثقافية محل جبهة المقاومة، لأن الثقافة تظل القوة الحيوية والأساسية للأمة، حماية وجودنا والمورد النهائي لمعركتنا.


لذلك فإن الأفريقية وحدها قادرة على ابتعاث وإحياء النزعة الإنسانية الأفريقية الطليعية التي تواجهها الثقافات الأخرى؛ وستأخذ مكانها كجزء من الإنسانية العالمية وتستمر من هناك. يجب على فنانينا، مؤلفينا ومفكرينا، إذا أرادوا أن يخدموا أفريقيا، أن يجدوا الإلهام في أفريقيا.


وبالتالي فإن الاستقلال التام هو الشرط الأساسي لتطور الثقافة لخدمة الجماهير.









Comments