نتائج اجتماع صناع أفلام العالم الثالث في الجزائر العاصمة، 1973

 



تَمْهِيد



اِزدهر مفهوم العالم الثالث وتطور إلى أن وصل إلى أوجه في نهاية عقد الستينيات الطويل، أي حتى النصف الثاني من السبعينيات. وبعد أن كان مفهومًا أفريقيًا وآسيويًا بشكل أساسي نابعًا من مؤتمر باندونغ، ظهر البُعد اللاتيني للمفهوم مع حصول كوبا على استقلالها في 1959. تنوعت حقائق بلدان العالم الثالث السينمائية طبقًا للمقومات الصناعية والاقتصادية والبنية التحتية للصناعة السينمائية المتاحة في كل بلد. وحد بين تلك السينمات عداء مشترك للسينما الهوليوودية المهيمنة، بينما تنوعت الأساليب الجمالية والإنتاجية لأفلام العالم الثالث. لا تشير سينما العالم الثالث إلى جميع الأفلام التي أنتجتها الدول المندرجة تحت المفهوم الواسع ولكنها طريقة لتمييز الأفلام التي صنعت لتساهم في عملية التحرير من الاستعمار التقليدي والجديد في هيئته الاقتصادية/الثقافية. 


منذ استقلالها في 1962، سعت الجزائر إلى تطبيق النموذج المصري في تأميم إنتاج وتوزيع الأعمال السينمائية وهو ما أسفر عن تأسيس جهات مثل المركز القومي للسينما والهيئة العامة للسينما والسينماتيك، والتي تمخض عنها الديوان الوطني للتجارة والصناعة السينماتوغرافية. وبعد عقد من الأفلام ذات الإنتاج الضخم التي اقتصرت على إعادة سرد حرب التحرير، ووصلت بالسينما الجزائرية إلى المهرجانات العالمية وحصول بعض الأفلام مثل ريح الأوراس على سعفة كان الذهبية، ظهرت موجة جديدة من الأفلام الجزائرية تركز على قضايا إعادة توزيع الأرض الزراعية بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي في مطلع السبعينات. ظهرت أيضًا أفلام لجيل جديد من السينمائيين اهتموا فيها بتتبع مسار التنمية المتعثر بعد الاستقلال.

في يوليو 1969 وخلال استضافة الجزائر لمهرجان الفنون العموم أفريقية الأول، اجتمع مجموعة من السينمائيين الأفارقة من أجل تأسيس كيان سينمائي قاري يساعد على كسر احتكار شركات التوزيع الأمريكية والفرنسية، خاصةً في أفريقيا الغربية والمغرب العربي، وهو المشروع الذي ظهرت فكرته في الدورة الأولى لمهرجان قرطاج سنة 1966. ضمت المجموعة سينمائيين أفارقة من الرعيل الأول مثل عثمان سمبين وبولين فييرا وطاهر شريعة. ازدهر اتحاد السينمائيين الأفارقة FEPACI في السنوات الأولى من السبعينات ليشمل 39 دولة أفريقية. اعتمد الاجتماع في الجزائر على نجاح FEPACI خاصةً في أفريقيا الفرانكفونية، والذي نتج عنه مبادرات مثل صندوق إنتاج مشترك ومحاولة لخلق سوق سينمائي للأفلام الأفريقية وأكثر النتاجات حياةً وهو مهرجان واغادوغو للسينما الأفريقية في بوركينا فاسو.

تبدأ الوثيقة بشرح اقتصادي للوضع في دول العالم الثالث التي جردها الاستعمار من مقومات النمو والتطور الطبيعي. من الجدير بالذكر بأن نظريات سمير أمين عن التبعية والنمو والتراكم الرأسمالي غير العادل على الصعيد العالمي كانت في أوجها في ذلك الوقت. تنتقد الوثيقة نظريات "التخلف" المطروحة لتفسير تأخر دول العالم الثالث في مستويات المعيشة والإنتاج الثقافي. كما تقدم مفهوم الاستعمار الجديد لوصف نوع جديد من الهيمنة الاستعمارية التي تمارسها دول كبرى على المستعمرات السابقة والبلاد المحررة حديثًا. تربط الوثيقة بين القهر الاقتصادي والتهميش الثقافي. تمارس الدول الكبرى نوع من أنواع التجهيل والإفقار تشرعن من خلاله سياساتها الاستغلالية، وتستخدم الثقافة لزرع الدونية الثقافية في الشعوب "المتخلفة". بعد الجلسة الافتتاحية للاجتماع، تم تقسيم الحضور إلى ثلاث لجان فرعية: لجنة لبحث دور صناع الأفلام في معركة التحرير الوطني والتنمية، لجنة لبحث مشاكل الإنتاج والإنتاج المشترك ولجنة ثالثة لبحث التوزيع السينمائي في دول العالم الثالث. 


في إطار اهتمامنا بالمانيفستوهات والوثائق السينمائية من فترة الخمسينيات والستينيات وامتدادها، نقدم لكم ترجمة الجزء الأول من وثيقة "نتائج اجتماع صناع أفلام العالم الثالث" والتي تأتي تحت عنوان "السينما الشعبية". على أن ننشر باقي الأجزاء الأسبوع القادم على المدونة. 



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ



نتائج اجتماع صناع أفلام العالم الثالث في الجزائر العاصمة، 1973


الجزء الأول|

لجنة 1: السينما الشعبية

لجنة السينما الشعبية - دور السينما وصناع الأفلام في العالم الثالث في مواجهة الإمبريالية والاستعمار بالنسبة لصناع الأفلام والمراقبين التاليين: فيرناندو بيري (الأرجنتين)؛ أمبيرتو رويس (بوليفيا)؛ مانويل بيريز (كوبا)؛ جورج سيلفا (كولومبيا)؛ جورج كيدرون (الأرجنتين)؛ موسى ديكايت (جمهورية غينيا)؛ فلورا غوميز (غينيا بيساو)؛ محمد عبد الواحد (المغرب)؛ الهاشمي شريف (الجزائر)؛ الأمين مرباح (الجزائر)؛ ماش خالد (الجزائر)؛ سيد علي (الجزائر)؛ بن صالح محمد (الجزائر)؛ مزياني عبد الحكيم (الجزائر)؛ مراقبون: جان لاندكويست (السويد)؛ جوزفين (غينيا بيساو)؛ سيلفاتور پيسيسيلى (إيطاليا).

التقت اللجنة في الـ 11، 12 و13 ديسمبر 1973م، في الجزائر، تحت رئاسة الأمين مرباح. ومع نهاية مشاوراتها تبنت اللجنة التحليل التالي.

ما يسمى بـ "التخلف" هو بالأساس ظاهرة اقتصادية لها انعكاسات مباشرة على القطاعات الاجتماعية والثقافية. لتحليل مثل هذه الظاهرة يجب أن نشير إلى ديالكتيَّة تطور الرأسمالية على نطاق عالمي.

مددت الرأسمالية نفسها -خلال لحظة تاريخية محَّددة في تطورها- خارج إطار الحدود الأوروبية الوطنية وتوسعت -وهو شرط ضروري لنموها- إلى مناطق أخرى من العالم حيث كانت قوى الإنتاج، المتطورة قليلًا، تقدم أرضية مناسبة لتوسع الرأسمالية من خلال وجود مورد مادي هائل وجديد، واحتياطيات من القوى العاملة الرخيصة والمتوفرة التي شكلت سوقًا جديدًا محتملًا لمنتجات الصناعة الرأسمالية.

ظهر هذا التوسع في جهات مختلفة، بالنظر إلى علاقات القوى وبطرق عدة:

أ. عبر الاستعمار المباشر والكامل المشتمل على اِحتلال عنيف وإنشاء بنية تحتية اقتصادية واجتماعية لا تتوافق مع الاحتياجات الحقيقية للشعب ولكنها تخدم بشكل أكبر أو حصريًا مصالح البلدان الحضرية؛

ب. بإسلوب مبطن بعض الشيء، تاركة للبلدان المعنية تظاهرًا بالتَحَرُّر؛

ج. أخيرًا، من خلال نظام هيمنة من نوع جديد - الاستعمار الجديد.

كانت النتيجة أن هذه البلدان خضعت لدرجات متباينة من التطور، من ناحية؛ ومستويات متنوعة للغاية من التبعية فيما يتصل بالإمبريالية: الهيمنة والتأثير والضغوط، من ناحية أخرى.

كان للأشكال المختلفة للانتفاع والنهب الممنهج للموارد الطبيعية عواقب جسيمة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لما يسمى بالبلدان "المتخلفة"، مما أدى إلى حقيقة أنه على الرغم من أن هذه البلدان مرت بدرجات متنوعة للغاية من التنمية إلا أنها واجهت خلال نضالها لأجل الاستقلال والتقدم الاجتماعي عدوًا مشتركًا: الإمبريالية التي وقفت في طريقها باعتبارها العقبة الرئيسية أمام التطور.

يمكن رؤية عواقبها في:

أ- تَمفصُل القطاعات الاقتصادية: عدم توازن التنمية على المستوى الوطني في ظل وجود أقطاب جذب اقتصادي لا يتوافق معها تطوير اقتصاد قومي مخطط نسبيًا ومع مصالح الجماهير الشعبية، مما أدى إلى ظهور مناطق الازدهار الزائف.

ب. عدم التوازن على المستويين الإقليمي والقاري، مما يكشف عن إصرار الإمبريالية على إنشاء مناطق جذب مناسبة لتوسعها والتي تم تقديمها كنماذج للتنمية من أجل تثبيط نضال الشعب نحو الاستقلال السياسي والاقتصادي الحقيقي.

إن الانعكاسات على المستوى الاجتماعي خطيرة وعديدة: فهي تؤدي إلى إفقار نوعي للأغلبية لصالح القوى المسيطرة والبرجوازية الوطنية بالدرجة الأولى، حيث يهتم قطاع واحد بشكل موضوعي بالتنمية الوطنية المستقلة، بينما هناك قطاع طفيلي وسيط ترتبط مصالحه بمصالح القوى المسيطرة.

لقد أثرت التفاضلات والتفاوتات الاجتماعية بشكل خطير على المستوى المعيشي للناس، لا سيما في المناطق الريفية حيث وجد الفلاحون الذين تم احتلالهم أو إِفقارهم أنه من المستحيل إعادة الاستثمار في ذات المكان لأجل العيش، وتحول غالبيتهم إلى الاستهلاك الذاتي والبطالة والهجرة من الريف. أدت هذه العوامل إلى تفاقم البطالة وانخفاض قيمة العمل في المراكز الحضرية.

تبنت الإمبريالية مشروعًا منهجيًا للإجهاز على الثقافة وتجهيل شعوب العالم الثالث، وذلك من أجل شرعنة وتقوية سيطرتها على اقتصادات البلدان الواقعة تحت الاستعمار التقليدي أو الاستعمار الجديد

يتضمن الإجهاز الثقافي نزع الطابع الشخصي عن الشعوب، وتشويه سمعة ثقافتها عبر تقديمها على أنها متدنية وغير منتجة، وعبر عرقلة تطورها الخاص، وتشويه تاريخها ... بعبارة أخرى، خلق فراغ ثقافي فعلي مناسب لعملية متزامنة من التثقيف الذي يسعى المسيطر من خلاله إلى جعل هيمنته مشروعة من خلال ادخال قيمه الأخلاقية الخاصة، وأنماط حياته وفكره، وتفسيره للتاريخ: بكلمة، ثقافته.

إن الإمبريالية، كونها مُرغَمة على مراعاة حقيقة أن الشعوب المستعمرة أو الخاضعة للسيطرة لها ثقافتها الخاصة التي تدافع عنها، فإنها تتسلل إلى ثقافة المُستعمَر، وتقيم علاقات معها وتستولي على تلك العناصر التي تعتقد أنها يمكن أن تحولها لصالحها. يتم ذلك باستخدام القوى الاجتماعية التي يجعلونها ملكهم، العناصر الرجعية لهذه الثقافة. بهذه الطريقة تصبح لغة المُستعمَر، حاملة الثقافة، متدنية أو غريبة؛ يتم استخدامها فقط في دائرة الأسرة أو في الدوائر الاجتماعية المقيدة. لن تعود إذن وسيلة للتعليم والثقافة والعلوم، لأنه في المدارس يتم تدريس لغة المُستعمِر، ويصبح لا غنى عن معرفتها من أجل العمل والعيش وتأكيد الذات. إنها تتسلل تدريجيًا إلى العلاقات الاجتماعية وحتى الأسرية للمُستعمَر. اللغة: هي نفسها وسيلة للاغتراب، حيث يميل المُستعمَر إلى ممارسة لغة المُستعمِر، بينما تصبح لغته وشخصيته وثقافته وقيمه الأخلاقية غريبة عنه.

على نفس المنوال، فإن العلوم الاجتماعية، مثل علم الاجتماع وعلم الآثار وعلم الأعراق البشرية، تعمل غالبًا لخدمة المُستعمِر والطبقة المهيمنة من أجل إتقان عمل عزل الناس عبر عملية علمية زائفة تتكون في الواقع ببساطة من تبرير بأثر رجعي لوجود المُستعمِر وبالتالي للنظام الجديد القائم.

هذه هي الطريقة التي حاولت بها الدراسات الاجتماعية تفسير الظواهر الاجتماعية بالحتمية الجبرية، الغريبة على ضمير وإرادة الإنسان. في المجال الإنثولوجي، تألف المشروع من التجذير في أذهان المستعمَرين مظانًّا بشأن الدُونِيّة العرقية والأصلية وعُقَد عدم الكفاية لإتقان المكتسبات المختلفة للمعرفة والإنتاج البشري. سعت الإمبريالية للعب على الفروق الزائفة بين أعراق ومجتمعات الشعوب المستعمَرة، مانحة امتيازًا لمجموعة عرقية أو أخرى.

أما بالنسبة لعلم الآثار، فقد ساهم دوره في الاغتراب الثقافي على تشويه التاريخ من خلال التركيز على اهتمامات وجهود البحث والتنقيب عن الآثار التاريخية التي تبرر الأبوة الأكيدة للحضارة الأوروبية التي تم رفعها وتقديمها على أنها متفوقة للأبد على الحضارات الأخرى التي تم دفن آثارها.

استمرت الثقافة الوطنية في التطور في بعض البلدان، في حين كانت في الوقت ذاته تجر إلى التخلف بواسطة القوى المهيمنة، بينما تميزت في بلدان أخرى بالتعثر الذي أعاق تطورها الخاصنظرًا لطول لفترة الهيمنة المباشرة. بحيث يكون كل ما تبقى منها آثارًا غير قادرة على أن تكون أساس نهضة ثقافية حقيقية، إلا إذا تم رفعها إلى المستوى الحالي لتطور القوى المنتجة الوطنية والدولية.

تجدر الإشارة مع ذلك إلى أن ثقافة المستعمِر بينما تنفر الشعوب المستعمَرة، فإنها تفعل الشيء ذاته لشعوبها التي استغلها النظام الرأسمالي. وبالتالي، فإن الاغتراب الثقافي يمثل طابعًا مزدوجًا - قوميًا ضد كل الشعوب المستعمَرة، واجتماعيًا ضد الطبقات العاملة في البلدان المستعَمرة وكذلك في البلدان المستعمِرة.

سعيًا للبقاء وتعزيز نفسها، تتجذر الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الإمبريالية، داخل نظام أيديولوجي يتم التعبير عنه عبر قنوات مختلفة، وبشكل رئيسي عبر السينما التي تعتبر في وضع يُمكنها من التأثير على غالبية الجماهير الشعبية لأن أهميتها الأساسية في ذات الوقت، أهمية فنية وجمالية واقتصادية واجتماعية، تؤثر إلى حد كبير على التدريب العقلي. تخضع السينما، كونها صناعة أيضًا، للتطور نفسه الذي يخضع له الإنتاج المادي داخل النظام الرأسمالي وعبر حقيقة أن اقتصاد أمريكا الشمالية يتفوق على الإنتاج الرأسمالي العالمي، تصبح السينما الخاصة بها هي الغالبة أيضًا وتتغلغل في شاشات العالم الرأسمالي وبالتبعيّة تلك الموجودة في العالم الثالث حيث تساهم في إخفاء عدم المساواة، وتحيلهم إلى تلك الأيديولوجية التي تحكم النظام الإمبريالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.

مع ولادة حركة التحرر الوطني، أخذ النضال من أجل الاستقلال بعض العمق. من ناحية، فإن إعادة تقييم التراث الثقافي الوطني وجعله ديناميكيًا أصبح ضروريًا عبر تطوير التناقضات. من ناحية أخرى، فإن مساهمة العوامل الثقافية التقدمية مستعارة من مجال الثقافة العالمية.




Comments