حياتي مع لومومبا







أجريت المقابلة التي ننشرها اليوم مع بولين لومومبا زوجة رئيس الوزراء الكونغولي الراحل باتريس لومومبا بواسطة مجلة نهضة أفريقيا الصادرة عن الرابطة الأفريقية التي شكلت  مقر حركات التحرير الأفريقية في القاهرة خلال الستينيات. بدأ لومومبا نضاله ضد الاستعمار البلجيكي بتأسيس "الحركة الوطنية الكونغولية" في أكتوبر 1958م، والتي كان مبدأها مقاومة الاستعمار عبر النضال السلمي. وفي ظل سعيه ورفاقه المستمر ضد الاستعمار البلجيكي نالت الكونغو في النهاية استقلالها عن بلجيكا وتقلد لومومبا منصب رئيس الوزراء، حتى قام الجنرال موبوتو سيكو بانقلاب على السلطة المنتخبة عام 1960م وسيطر على الدولة؛ اعتُقل لومومبا إثر هذا الانقلاب ولكنه تمكن من الهرب ليُعتقل مرة أخرى ويودع سجن تسيفل قبل أن يتم تسليمه بالقوة إلى مويز تشومبي الذي قام بتصفيته بواسطة فرقة إعدام مع اثنين من رفاقه هما رئيس مجلس الشيوخ جوزيف أوكيتو، ووزير الإعلام موريس موبولو في 17 يناير 1961م، بعد أن تم تعذيبهم بشدة بواسطة ضباط كاتنغيين وبلجيكيين. تم التخلص من جثث المناضلين بعد أربعة أيام، حيث قطعت إلى قطع صغيرة و أذيبت في حمض الكبريتيك، وهي المهمة التي قام بها ضابط الشرطة البلجيكي غيرارد سويت. اعترف سويت بالدور الذي قام بها في الاغتيال خلال لقاء تلفزيوني عام 1999م، حتى أنه ذكر أنه احتفظ باثنين من أسنان لومومبا كـ"تذكار" لسنوات عدة، وتخلص منها لاحقًا في بحر الشمال. اخترنا نشر هذه المقابلة لأنها تتحدث بشكل مباشر لمحاولتنا للتعرف على التاريخ الثوري في القارة الأفريقية والقادة الذين قادوا التغيير.

ــــــــــــــــــــــــــــــ




حديث السيدة بولين لومومبا إلى مندوبة "نهضة أفريقيا".


جلست إلى السيدة بولين لومومبا .. وجه سمح منبسط القسمات، وبدن رقيق مهذب، وصوت مثقل بالأسى، في نبراته الحزينة ألف طعنة من طعنات القدر. وفي بهو فسيح كان يمرح فيه أولادها ويتضاحكون تحدثت مع أرملة الشهيد وكان أوسطهم (اسمه باتريس) يتلفت کلما أشارت مدام "بولين" في حديثها عن زوجها بقولها "باتريس"، فقد كان الصبي يظنها تناديه في حين تتحدث هي عن "باتريس الكبير" الذي أصبح من أعلام التاريخ.


عادت الذكريات بالسيدة بولين إلى صباها النضر وهي في قرية صغيرة من قرى "كاساي"، قرية أكثر بيوتها من أغصان الغاب وليس بها من مظاهر "الحضارة الأوروبية" سوى مقر الشرطة، ومدرسة الإرسالية، والمستشفى الصغير، وحانوت البدال الرومي الذي يبيع للحاكم والجند والموظفين، متنوعات شتى من محفوظات العلب، فليس هناك ولا في أية قرية أخرى من قرى الكونغو ما يحفز الأهلين إلى إنتاج الخضر والفاكهة أو البقول الطازج. 


في تلك القرية نشأ فتى كان زميل الصبى "للآنسة" بولين هو "باتريس لومومبا" ... كانا يلتقيان وهما في طريقهما إلى مدرسة الإرسالية أو إلى الكنيسة يوم الأحد، ولم يكن في حياتهما ما يثير، فالقرية راضخة هادئة تحت سطوة المستعمر البلجيكي، والأهالي قانعون أو يظهرون القناعة بمصيرهم المقبض وكل شيء يبدو كأنه حتمي في قبضة القدر.


 أنهت "بولين" دراستها مبكرة فلم يكن بالقرية مرحلة للدراسة بعد المرحلة الأولى، أما "باتريس" فقد انتقل إلى عاصمة المقاطعة، "لولوا بورج" حيث أتم تعليمه الأوسط، ومن هناك لحق بعمل في الحكومة وقاده تیار الحياة إلى ستانلي ڤيل حيث عمل في دار البريد؛ ومرت أعوام لم تسمع فيها "بولين" شيئًا عن "باتريس لومومبا"، وتشاء الأقدار مرة أخرى -وكان ذلك عام 1950- أن يذهب والديه لزيارته في ستانلي ڤيل، ويتحدثان -شأن جميع الوالدين- عن الزواج. وكان تفكير "لومومبا" الشاب وعواطفه وأحلامه كلها تدور حول (مصير الكونغو) … كانت قد اكتملت شخصيته وغذته ستانلي ڤيل بعناصر الثورة الجامحة ولم يعد يفكر فيما يفكر فيه أترابه من زواج وراحة شخصية، فلم يناقش والديه في حديث الزواج، ولكنهما ذكرا له زميلة القرية ورفيقة الصبي فاستجاب لهما.


وذات مساء، بعد أسابيع معدودة، وصلت إلى ستانلي ڤيل من کاساي عائلة لومومبا ومعها "بولين".. وفي كوخ صغير علي ضفة النهر في ستانلي ڤيل قضت بولين سنوات زواجها الأولى، وأنجبت "باتريس" وابنتها "جوليانا". وفي هذه الفترة احتدمت دوافع الوطنية في المقاطعة الشرقية ووجدت في "باتريس لومومبا"، لسانها الناطق الساحر. 


تتحدث بولين عن هذه الفترة فتقول إن "باتريس كان يزور بيته في لحظات عابرة ويقضي كل أوقات فراغه مع زملاء كفاحه يدبرون "حملة هامسة" ... ولم يكن في الوسع حينئذ أكثر من "الهمس" وبث الدعوة الوطنية في الخفاء، فقد كان البلجيك الطغاة يفتكون بكل وطني تحوم حوله شبهة أو يتهم "بنشاط" من أي نوع كان.


كانت الفترة من عام 1955 إلى عام 1958 فترة امتحان شاق للجمعية السرية التي ألفها زوجي واشتهرت بعد ذلك باسم "الحركة الوطنية الكونغولية"، وقد استطاع "باتريس" بفضل ولاء أعوانه وقوة إرادته أن يمد خطوط هذه المنظمة إلى جميع مقاطعات الكونغو؛ وحدث كل ذلك رغم أنف البلجيك الذين لم يمسكوا له "سقطة" واحدة توقعه في مخالبهم.


لم يكن "باتريس" يتحدث معنا أبدًا في السياسة، كان في المنزل زوجًا عطوفًا ووالدًا حنونًا، ولا أذكر أننا تشاجرنا أو أنه عاقب أولاده عقوبة بدنية. كان أقصى ما يصدر عنه صيحة تحذير أو تأنيب عابرة، ولا يلبث أن يعود إليه هدوءه وصفاء نفسه.


وفي ذات يوم من أواخر عام 1959 قال لي "باتريس"، وهو يفكر تفكيرًا عميقًا، أنه ذاهب إلى غانا ليحضر مؤتمرًا للشعوب الأفريقية، وتركني أنا والأولاد في رعاية أخيه الأكبر "شارل" الذي يعمل بالتجارة إلى الآن في "ستانلي ڤيل" ولم يطل غيابه عنا، وعندما عاد كان المواطنون جميعًا يتحدثون عن خطبته في "مؤتمر أكرا" ومطالبته باستقلال الكونغو فورًا، ووجد البلجيك فرصتهم للانتقام منه ففصلوه من عمله في البريد ورصدوا له الجواسيس، وبدأنا -أنا والأولاد- لأول مرة، نخاف على حياته وعلى حياتنا، ولكن قلوب المواطنين كانت تحوطنا، وكنا نشعر أن أفريقيا كلها تنظر إلينا وتناصرنا.


وجرت الأحداث سراعًا …


وفي أوائل 1959 وقعت حوادث ليوبولدڤيل التي أطلق فيها البلجيك النار على الأهالي بغير ذنب إلا رغبتهم في عقد اجتماع وطني. وفي منتصف السنة نفسها ضرب "باتريس" ضربته الثانية في "ستانلي ڤيل" فحدثت الإضرابات وسقط القتلى والجرحى، واعتقله البلجيك ووضعوه في السجن.


وشعرنا مرة أخرى أن الدنيا كلها معنا، وكان أهالى "ستانلي ڤيل" يهددون بالقيام بثورة مدمرة إذا تعرضت حياة "باتريس" للخطر، وكنا نزوره في السجن ونرى الأهالي وهم يحملون إليه الطعام والحلوى، ولا أزال أذكر صديقه العزيز "جرنفل" وهو يشق طريقه - رغم تقدمه في السن - ويحمل كل يوم "لفافة" إلى باتريس ... إن "باتريس" لم ينس "جرنفل" أبدًا وعندما تولى الحكم فيها بعد استفاد بخبرته الواسعة ووطنيته وإخلاصه فعينه "وزير دولة".


في السجن ألف باتريس كتابه "الرد على مزاعم الاستعمار"، واستطاع أنصاره تهريب "المخطوط" وطبعوه في "ليوبولدڤيل" سرًا ونشروه في جميع أنحاء الكونغو. وقد رأيت هذا الكتاب لآخر مرة حينما أعطى "باتر یس" نسخة منه لأبنائنا الصغار ليلة سفرهم إلى القاهرة .. أعطى كلًا منهم نسخة، وهو يقول لهم : "اقرأوا هذا لتعرفوا تاريخ الحركة الوطنية في بلادکم" .. حتى جوليانا الصغيرة أعطاها نسخة وأوصاها هذه الوصية.


وعادت الأحداث تركض مرة أخرى؛ لقد ذعر البلجيك من ظهور التنظيمات الحزبية الواسعة المدى وقرروا التفاوض مع زعماء الأحزاب وعلى رأسهم "باتريس لومومبا"، وأصبحنا لا نراه في البيت إلا قليلًا، فهو دائمًا مع أنصاره في ستانلي ڤيل أو في "الاستوائية" أو في "کاساي" أو في "كاتانغا"، وأحيانًا لا يكون في الكونغو وإنما يكون في "بروکسل" على مائدة المفاوضات، وأنا وأولادي مع أسرة أخيه "شارل"؛ إلى أن جاء الاستقلال وانتخب باتريس أول رئيس لحكومة الكونغو المتحدة.


انتقلنا -مرغمين- إلى ليوبولدڤيل، وفي ذات ليلة تذكرنا جيراننا واصدقائنا في "ستانلي ڤيل" وتحسرت على الأيام الجميلة الماضية فضحك "باتريس" وهو يقول، "لا تحزني يا بولين، إن البرلمان لم يقرر اختیار ليوبولدڤيل عاصمة للكونغو، وإنما هي عاصمة مؤقتة، وسوف نعمل على اختيار ستانلي ڤيل، وحينئذ تعودين إلى جيرانك الأعزاء".


أقمنا معًا في بيت جميل قريب من النهر وكان مكتبه "رئاسة الحكومة" في مواجهتنا على نهر الكونغو نفسه، وكان البرلمان أيضًا على بعد خطوات منا، ومع ذلك، فقد تمضي بضعة أيام ولا أرى زوجي؛ فقد انهمك بكل حواسه في بناء الدولة، وفي دفع مؤامرات البلجيك والفرنسيين والإنجليز وأخيرًا، الأمريكيين، ولما جاءت "الأمم المتحدة" زادت همومه وأعبائه. 


في سبتمبر من العام الماضى وقع انقلاب "موبوتو" وأصبحت حياتنا في خطر، فنقلنا زوجي إلى مبنى رئاسة الحكومة الذي بقينا به -تحت حراسة الأمم المتحدة- إلى أن قرر باتريس الهجرة سرًا إلى ستانلي ڤيل، ولم يكتب لنا النجاح.


في تلك الدار، دار الرئاسة، كنت أرى رجال سفارتكم في "ليوبولدڤيل" وهم يزورون زوجي مجازفين باختراق الحصار الذي فرضه جنود "موبوتو" حول بيتنا، وكان زوجي يقول لي، "هؤلاء أصدقاؤنا الأوفياء، رجال الجمهورية العربية المتحدة".


وعندما قرر زوجي مغادرة ليوبولدڤيل، لم يذكر لى الخطة في مبدأ الأمر، ولكنه قرر أن يبعد أبناءنا عن الخطر بإرسالهم إلى القاهرة، وتفاهم في ذلك مع سفارتكم بالكونغو، ثم أفضى إليَّ بالقرار بعد أن اتخذه وصمم عليه، وعارضت أن يخرج أولادي من أحضاننا إلى مصير مجهول ولكنه أصر وأكد على أن هذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ مستقبلهم.


هيأناهم للسفر سرًا، وفي ليلة من أواخر أكتوبر جاء ممثل السفارة (تلفتت السيدة بولين إلى رئيس تحرير هذه المجلة الذي كان حينئذ مستشارة لسفارة الجمهورية العربية المتحدة في الكونغو والذي نفذ عملية إنقاذ أولاد لومومبا) فوجدناه في انتظارنا في صالة المنزل، وكان الأولاد يقفزون فرحة، ووالدهم يوصيهم بالتعقل ويلقي إليهم بالنصائح، أما أنا فكنت في حالة تحجر من الأسى، ولم أقدر على أن أرفع ذراعي لأعانقهم وهم يتدافقون إلى سيارة دخلت إلينا خفية ثم خرجت بهم تحت جنح الظلام.


لم تمض أيام معدودة حتى قرر "باتريس" أن ينفذ خطة الهجرة إلى "ستانلي ڤيل"، وبعد أن تبسم لنا الحظ يومين ابتعدنا خلالها حوالي ثلاثمائة كيلو متر عن ليوبولدڤيل، عاد الحظ فانتكس ولحقت بنا عصابات "موبوتو" واقتادونا إلى ليوبولدڤيل حيث ألقوا بزوجي في السجن، وقذفوا بي أنا و "أورلاندو" على الرصيف، ومن ذلك الحين لم أر زوجي، وعشت في دنيا من الجحيم والعذاب، إلى أن جاءني الخير المشئوم، خبر قتله في "كاتانغا".


أشفقت على السيدة الجريحة القلب. أن تستطرد بذكرياتها إلى أيام الحداد على البطل الشهيد ورجائها الأمم المتحدة لاسترداد جثمانه، ثم تشردها في مسارب الحي الأفريقي في ليوبولدڤيل وعصابات "موبوتو" تقتفي أثرها هي وابنها الصغير … أشفقت عليها من لهيب الذكريات القريبة فأشرت إلى أولادها الضاحكين حولنا وقلت لها، "وكيف شعورك الآن؟"


فقالت، وطيف ابتسامة يلوح على وجهها الرقيق المعبر، "إنني أشعر أن زوجي كان على صواب حينما قرر إرسالهم إلى القاهرة، وأشعر في الوقت نفسه أنه لم يمت، إن كل واحد منهم، هو "باتريس لومومبا" بلحمه ودمه … 


إعادة نشر لحوار أجرته الصحفية هدى هنري مع بولين لومومبا في العدد 46 من مجلة نهضة أفريقيا، عام 1961.






Comments