الشـــعوب الإثنولوجية

مقال: عبد الله بولا





اتفق لي هذا العنوان ليناسب النظرة التي تخص بها الإثنولوجيا الغربية شعوب العالم غير الأوروبي أو غير الأوروبي الأصل. وربما أمكن القول بعبارة أدق أن الإثنولوجيا تأسست كـ"علم" على هذه النظرة أصلًا. وأعني النظرة إلى هذه الشعوب بمنظار الخصائص الأزلية التي تسميها الإثنولوجيا بـ"الهوية". وهي "الهوية" التي كانت الإثنولوجيا الاستعمارية تعيبنا بها وتبرر بها من ثمَّ شن حملة أوروبا التمدينية على بلداننا. وفحوى مفهوم الهوية أن "خصائص" ثقافية اجتماعية بعينها (لا يدري أحدٌ متى تكونت وكيف تكونت ولماذا تكونت. وبعبارة أفضل، لا يهتم أحدٌ بشروط وملابسات وضرورات نشأتها وتحولها إلى بنية) ينبغي أن لا تمسها يد التغيير مهما كان من أمر حركة الواقع المحيط وملابساته وصروفه. ثم تطورت أشكال الهيمنة والوصاية وتطورت أيديولوجياتها. وظهرت منها هجائن عجيبة. لعل أول هذه الهجائن دعوة نفر من المثقفين الكولونياليين الليبراليين والإنسانيين، على رأسهم رائد مدرسة الإثنولوجيا الوظيفية الكبير مالينوڤسكي، للمجتمع الأوروبي الكولونيالي لاحترام الخصائص الاجتماعية-الثقافية للشعوب المُسْتَعْمَرة. وقد رسم مالينوڤسكي صورةً زاهية للبنى الاجتماعية والثقافية لهذه الشعوب قابل بها صورةً كئيبةً قاتمة رسمها لـ"المجتمع الحديث" (الأوروبي بالطبع!).


ودعا مالينوڤسكي ومن سار على خطاه إلى الحفاظ على هذه "الخصائص" أو "الخصوصيات" وحمايتها من بشاعة الحداثة. إلا أن من هجائن مفهوم الحفاظ على خصائص الشعوب الإثنولوجية نسخة أخرى "تقدمية" تصدر عن مشروعٍ معادٍ للاستعمار قديمه وحديثه. هذه النسخة ترى إلى دعوة الحفاظ على الخصائص من موقع ضرورة تمسك هذه الشعوب بحقها في الاختلاف وفي حماية تراثها الوطني من مخططات النفي الثقافي الاستعماري. وترى في ذلك رافدًامن روافد الحماس والطاقة الثورية للنضال الوطني التحرري. ومن هنا حماس قطاعات واسعة من المثقفين والمتنورين من اليسار الأوروبي (والأمريكي) للهويات الثقافية-الاجتماعية لشعوب حركة التحرر الوطني. وهذا الحماس غير المتبصِّر يفتح بابًاواسعًالخلط الحابل بالنابل في أمر علاقة حركة التحرر الوطني بواقع وتاريخ البنى الثقافية الاجتماعية لبلدانها. ويؤدي إلى سوء تفاهم مقيم بين أصحاب الرؤى النقدية في حركة التحرر الوطني وبين غالبية ساحقة من التقدميين و"الإنسانيين" الأوروبيين (والأمريكيين أيضًا ). لأن منطق هذه الدعوة (دعوة الحفاظ على "الخصائص") ينتهي بنظرنا، نحن أصحاب الرؤى النقدية في حركة التحرر الوطني، إلى نتائج عجيبة لعل أحدًالم يكن يرغب في الوصول إليها من المثقفين الغربيين، و"التقدميين" منهم على وجه الخصوص.


أولى هذه النتائج عملية، هي أنه بينما نجدهم في صدارة دعوات وحركات التجديد والنقد والتجاوز والمواجهة النقدية للتراث الثقافي-الاجتماعي لبلدانهم، فهم ينقلبون إلى دعاة محافظة ويتخوفون من "مغامرات" التجديد والنقد والتجاوز عندما يتعلق الأمر ببلداننا بدعوى حمايتها من التغول الاستعماري. وقد ترتب على ذلك أن تحمس مثقفون أوروبيون يؤبه بهم، مثل سارتر وكامو وباشلار...إلخ لدعاوى بائسة تزعم تمثيل الهوية الأصالوية الأفريقية، على سبيل المثال دعوة الأب تمبلز المسماة بفلسفة البانتو (أو الفلسفة الأفريقية)، ودعوة الزنوجية السنغورية. بينما دافع جاك بيرك وميشيل فوكو، بين آخرين، عن الثورة الإيرانية باعتبارها تجديدًاللإسلام ورافدًاجديدًالحركة التحرر الوطني وتأكيد الهوية (!!) (وقد أعلن بيرك مؤخرًا عن أنه وفوكو كانا على خطأ).


ثانية هذه النتائج نظرية، وهي أن حركة البحث، بل حق البحث والاكتشاف والقطيعة النقدية والوصل النقدي أيضًامع الواقع والتراث، مقصور على "الغرب" وحده. فهذه الشروط الأساسية للمعرفة العلمية لا تفقد "الغرب" هويته كما تفعل بنا. فهويتنا لا تصان إلا في البقاء على الخصائص، البقاء في "الخصائص الأزلية". وهذه نتيجة لا يُحسد عليها أحد.


هذه دعوة للحوار مع كافة الذين يشغلهم همُّ التحرر الإنساني من ربقة الأحكام المسبقة الظاهرة والمتخفية. حوار بين أنداد تجمعهم الرغبة في مصيرٍ أفضل للتفاهم والتواصل مع الآخرين المختلفين.





لقد قرأنا هذا المقال خلال فعالية حول سيرة الفنان والمفكر عبد الله بولا التي استضفناها في مركز الصورة المعاصرة يوم الأحد الموافق 6 أغسطس، واحتفينا خلالها بأعمال وإسهامات الراحل د. بولا مع زوجته ومحررة أعماله نجاة محمد علي والدكتورة أميرة أحمد والدكتور وجدي كامل. خلال جلسات الاستعداد للفعالية شاركتنا نجاة المقال ورغبتها في قراءته في إطار الفعالية لأنها اعتبرته بمثابة وصية تركها د. بولا ليدعونا فيها للحوار حول إشكالات الهوية والتبعية الثقافية ومجابهة الاستعمار في شكليه القديم والحديث؛ حوارٌ ربما لن يكون حاضرًا خلاله بجسده ولكنه سيكون حاضرًا بأفكاره واستشرافه المتواصل للمستقبل.



الدكتور عبد الله أحمد بشير «عبد الله بولا»، فبراير ١٩٤٣- ديسمبر ٢٠١٨، كاتب وفنان تشكيلي صاحب إسهامات فكرية في الكثير من القضايا الهامة، مثل مسألة الهوية الثقافية، قضايا التعدد الثقافي، قضايا الهامش، العولمة ونقد الاستعمار بشكليه القديم والحديث؛ إلى جانب إسهاماته البارزة في الحركة التشكيلية في السودان.


في عام ١٩٨٨ شرع د. بولا في دراسات نقدية لحركات التحرر الوطني الأفريقية، أراد بها المساهمة في حركة الفكر النقدي الأفريقي المعاصر، بهدف محاولة إضاءة بعض دروب الرؤية لحركة التحرر الثقافي الأفريقية خلال مسعاها لبناء النهضة الثقافية الجديدة، في وجوهها السياسية والفكرية والإبداعية. وقد بدأها بمعالجة عامة حول مفهوم الهوية الثقافية في جزءٍ من رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في عام ١٩٨٤، وحقق في المشروع دراسة نقدية عن مساهمة الشاعر والسياسي ل. س. سنغور في حركة «الزنوجة» Négritude، تلتها دراسة نقدية لـ سيرة الزعيم الغاني كوامي نكروما السياسية والفكرية، ثم دراسة عنوانها «من أجل قراءة منهجية لتاريخ إفريقيا الحضاري» (١٩٩٣). كما تناول من رؤية نقدية «مفهوم الأصالة الثقافية الأفريقية» في مقالات ودراسات وبحوث نشرت بين ١٩٩٣ و١٩٩٤، ستظهر مجتمعة في كتاب تحت نفس العنوان.


من مؤلفاته العديدة «بداية مشهد مصرع الإنسان الممتاز»، وهي سلسلة مقالات نُشرت في ١٩٧٦-١٩٧٧، صدرت في كتاب في ٢٠١٧. «شجرة نسب الغول في الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان. أطروحة في كون الغول الإسلاموي لم ينزل علينا من السماء. ومواضيع أخرى في الديمقراطية والثقافة وحقوق الإنسان»، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أمدرمان (السودان)، ٢٠٢١.





Comments