٧٦ شارع النيل

آية أبو باشا

1/2

ديفيد غراهام دو بويز ووالدته شيرلي دو بويز في مصر 



تهدف هذه الورقة الختامية إلى البناء على المشروع البحثي للفصل الدراسي، من خلال إتاحة المجال لمتابعة بعض المصادر الأساسية الإضافية وتعزيز التحليل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

76 شارع النيل


إقامة آل دو بويز في القاهرة، الأممية السوداء، وتضامن شعوب العالم الثالث


تقدمة

يؤرخ فيجاي براساد في كتابه "الأمم الأدكن" (2007) صعود وهبوط مدرسة العالم الثالث. اعتمادًا على المفهوم الفانوني للعالم الثالث كمشروع تحرير وليس موقعًا محددًا، ينتقل بسرعة بين المدن الآسيوية، الأفريقية وأمريكا اللاتينية لدرز "تاريخ شعوب العالم الثالث". يجادل براساد بأن ربط هذه المناطق الجغرافية لم يكن عمومية عرقية أو ثقافية. بالأحرى كانت تجربة مشتركة للاستعمار، موقفًا سياسيًا ضده، وأحلامًا بعالم جديد خارجه. في الواقع، كانت تلك هي الكلمات التي استخدمها الرئيس سوكارنو لتقديم مؤتمر العالم الثالث الأول في باندونغ في عام 1955. قدم موقع باندونغ الاستعارة المثالية للوحدة الدولية. كانت إندونيسيا مزيجًا من شعوب متنوعة منتشرة عبر مئات الجزر. وهكذا طرح السؤال نفسه تقريبًا: إذا استطاعت إندونيسيا توحيد جميع شعوبها المختلفة في دولة قومية، فلمَ لا يمكن تشكيل تضامن عابر للحدود من دول باندونغ؟


أصبحت مصر تحت حكم ناصر، كما لاحظ براساد (2007: 57)، مركزًا نشطًا بشكل خاص لتخيل أرخبيل العالم الثالث وصياغة سياساته. على الرغم من إيلاء الكثير من الاهتمام للأبعاد العربية والإفريقية لأممية ناصر، إلا أنه تم تكريس القليل من الاهتمام للدور الذي لعبته القاهرة في علم أنساب الحركات الاجتماعية الأفرو-أمريكية. ستملأ هذه الورقة تلك الثغرة باستخدام رواية كتبها ديفيد غراهام دو بويز (1975) كمصدر أرشيفي، بالإضافة إلى العديد من المقالات من الإجيبشيان غازيت (حيث كان صحفيًا) وصحيفة الفهود السود (حيث أصبح محررًا). سأشير أيضًا إلى رسائل وتصريحات من والدة ديفيد، شيرلي غراهام دو بويز، التي غادرت غانا بعد الإطاحة بنكروما للعيش في القاهرة ومواصلة نشاطها السياسي.

 من خلال القراءة الدقيقة لهذه المصادر قيد الدراسة، أزعم أن القاهرة كانت عقدة حاسمة ليس فقط في تدويل النضال الأمريكي الأسود؛ ولكن أيضًا في تحويل علم أنساب المقاومة الأفرو-أمريكية من النشاط المتمركز حول الولايات المتحدة إلى تضامن العالم الثالث. وهكذا، خلصت هذه الورقة إلى أنه يجب دراسة شقة آل دو بويز في شارع النيل على أنها مفترق طرق العالم الثالث، على عكس إقامتهم في أكرا قبل عقد من الزمن - تربط مصر بعموم أفريقية غانا، وأفريقيا بأمريكا السوداء، وأمريكا السوداء بالعالم الثالث. إن إعادة النظر في نشاط دو بويز في 76 شارع النيل يستحق اهتمام المهتمين بنضال العالم الثالث، إنهاء الاستعمار والوعي الأفريقي العربي. ويمكنه أيضًا أن يخاطب النشطاء الحاليين الذين يحاولون إعادة التفكير في مناطق المقاومة العابرة للحدود - من #BlackLivesMatter في فيرغسون إلى فلسطين إلى أيوتزينابا. قراءة ديفيد وشيرلي غراهام دو بويز كمؤرخين توفر نظرة كيف بنيت "فيرغسون لفلسطين" على تاريخ عميق من التضامن بين نضالات السود والفلسطينيين للتحرير بالتحديد وتحرير العالم الثالث بشكل عام.


ديفيد غراهام دو بويز كمؤرخ


بولادته كابن لأكاديميين معروفين[1]، عموم أفريقيين، وناشطين سياسيين، فقد نشأ ديفيد غراهام دو بويز بوعي شتاتي. والده، وليام إدوارد بورغاردت دو بويز (1903)، يعتبر من أهم علماء الاجتماع الأمريكيين، بسبب تصريحه المتبصر حول تعريف مشكلة القرن العشرين على أنها مشكلة "خط الألوان"، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن عبر الجنوب العالمي - "علاقة الأجناس الأغمق بالأفتح في آسيا وأفريقيا، وفي أمريكا وجزر البحر". شَرع دو بويز في السفر على طول التشابكات العالمية لخط الألوان، حيث أقام مع زوجته شيرلي دو بويز في أكرا، غانا بدعوة من الرئيس كوامي نكروما، تاركًا وراءه إرثًا هائلًا من النشاطية والمعرفة في الولايات المتحدة. ومن خلال علاقتهما الوثيقة بالناشط المناهض للاستعمار الذي تحول إلى رئيس، أصبحت شيرلي غراهام دو بويز محاورة رئيسية فيما يتعلق بتدويل النضال من أجل الحرية للسود في الولايات المتحدة - ربط النشطاء السود بالقارة الأفريقية، بما في ذلك ستوكلي كارمايكل ومايا أنجيلو ومالكوم إكس. (فيلدمان: 155). في عام 1963، التقت شيرلي بمالكوم وقدمته إلى الرئيس نكروما في أكرا. كما أنها ربطته بابنها الذي أقام في القاهرة، حيث خطط مالكوم لزيارته في العام التالي. 

هذه الزيارة التي قام بها مالكوم لحضور المؤتمر الثاني لمنظمة الوحدة الأفريقية هي التي تتمركز حولها رواية ديفيد غراهام دو بويز ". . . وادعوه للغناء". الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية بشكل ما، ويعتمد بشكل كبير على تجارب ديفيد في مصر - لا سيما لقائه مع مالكوم إكس في عام 1964، وخبراته وصولًا إلى حرب 1967 مع إسرائيل. تعتمد الرواية على تفاعل الكاتب العميق مع خط الألوان العالمي: من خدمته في الجيش الأمريكي أثناء الحرب العالمية الثانية في مانيلا، حيث احتج لإعادته إلى الولايات المتحدة، بعد أن عانى من "الفصل والتمييز والإهانة" هو وأقرانه السود في الجيش (فيلدمان: 158). إبان عودته إلى الولايات المتحدة، سافر إلى براغ والصين مع حزب التقدميين الشباب في أمريكا، وعاد لدراسة الكمان وعلم الاجتماع والعمل الاجتماعي في معهد الموسيقى في كلية أوبرلين وكلية هانتر وجامعة نيويورك على التوالي. بعد ذلك، خلال رحلات والديه الشهيرة عبر الصين في عام 1959، تحت رعاية ماو تسي تونغ، التحق دو بويز بدراسات اللغة الصينية في جامعة بكين.

في طريق عودته من الصين إلى الولايات المتحدة، توقف دو بويز في القاهرة في زيارة ترانزيت، و "وقع في حب مصر" (بيرغر). لم يغادرها حتى عام 1972، وحتى ذلك الحين، استمر في التنقل بين الولايات المتحدة ومصر طوال حياته، مدرجًا عنوانه في 76 شارع النيل كمقر إقامة دائم في العديد من منشوراته ومراسلاته الإعلامية. تذكر لاحقًا لقاء الحب من أول نظرة مع المدينة الواقعة على النيل: "لقد تم قبولي كإنسان دون أي إشارة إلى لون بشرتي. لقد كانت تجربة غامرة. فقد وجدت نفسي غير مرئي "(بيرغر).

خلال الفترة التي قضاها في مصر، حاضر دو بويز لأول مرة في جامعة القاهرة عام 1960، ثم بدأ العمل في الصحيفة الإنجليزية الإجيبشيان غازيت لمدة 12 عامًا. وبينما كانت والدته تربط النشطاء السياسيين بأفريقيا في أكرا، استخدم دو بويز منصبه في الغازيت للقيام بالمثل من خلال صحافته الشتاتية؛ خلال فترة عمله في الصحيفة، كان دو بويز يوصل باستمرار انتفاضات وحملات وتحركات "النضال من أجل حرية السود" للجماهير المصرية. كما عمل مذيعًا في موجات بث راديو القاهرة إلى أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، حيث ترجم الأحداث في الولايات المتحدة في سياق أفريقي (فيلدمان: 158).

استخدم دو بويز منصبه في الغازيت للترويج لمالكوم إكس في القاهرة، ووثق عن كثب زيارته لمنظمة الوحدة الأفريقية في عام 1964، وزود الناشط بمنصة لنشر مقالات الرأي بما في ذلك رسالة إلى الأفرو-أمريكيين في القاهرة ومقال عن الصهيونية في أفريقيا. تكرر تعاون دو بويز مع مالكوم إكس عمليًا في ". . . وادعوه للغناء"، الذي يعد بطله أيضًا صحفيًا في الغازيت يلتقي بمالكوم خلال زيارته.

نظرًا لأن دو بويز أسس سرده على أحداث تاريخية، فإن الكتاب، على الرغم من كونه تخييلًا، فهو أيضًا تاريخ ويمكن مقاربته باعتباره "مؤرخًا سريًا" كما اقترحت سامية محرز (1994: 16). لن أستخدم الرواية فقط كمصدر أرشيفي بل سأستكمل الحبكة بمقالات دو بويز في الغازيت وبعدها مع صحيفة الفهود السود عند عودته إلى الولايات المتحدة. وسأنتبه أيضًا إلى السمات الشخصية المضمنة في شخصيات الرواية، المغتربين الأفرو-أمريكيين خلال بحثهم عن الهوية في أفريقيا.



تدويل النضال الأمريكي الأسود


من خلال عنوان الرواية وحده، وضع دو بويز مقتطفًا من شعر كونتي كولين من "نهضة هارلم" في شوارع القاهرة. سوناتا 1925 "وبعد هل أتعجب"، التي تتشاكس مع توتر العرق، الهوية والأداء الفني، وقد عادت لتنبض بالحياة بعد سنوات في تجارب شخصية البطل سليمان بن رشيد: وهو يقف أمام حشد عالمي في نادٍ للأداء في القاهرة، يقرأ مجموعة من قصائده الشخصية التي أهداها للنضال السود من أجل الحرية في الولايات المتحدة:


أهدي هذا البرنامج إلى السود في الولايات المتحدة الأمريكية الذين أردتهم الشرطة والحرس الوطني ورصاص الجيش في هارلم، في فيلادلفيا، في روتشستر، في جيرسي سيتي، مونتكلير، أورانج، نيو جيرسي، بينما يعبرون عن سخط نَزِيه في التمرد على كراهية الرجل الأبيض وعنصريته في أمريكا (97).


يشرع سليمان في استخدام منصته لنقل محنة الأفرو-أمريكيين إلى جمهور متنوع - معظمهم من المصريين، ولكنه شمل أيضًا طلابًا سودًا من غرب وشرق أفريقيا يدرسون في الأزهر، دبلوماسيون شباب ومقاتلون من أجل الحرية من جنوب إفريقيا، بعض الطلاب الباكستانيين والهنود من جنوب إفريقيا، وحفنة من الفلسطينيين (103). تحدثت قصائده الحماسية عن معاناة السود، اليأس وتدمير الذات بسبب العنصرية (102). وبهذه الطريقة، يكون القارئ قادرًا على تتبع تدويل الراديكاليّة السوداء، بينما تنتقل من فصل أمة إسلام سليمان في فيلادلفيا إلى مقاهي وشوارع القاهرة.

يأخذ مالكوم إكس، الذي أنجحت زيارته للقاهرة الأداء، قصائد سليمان خطوة إلى الأمام، من خلال ربط التجربة السوداء في الولايات المتحدة بشكل وثيق مع السياق الأفريقي. يوضح مالكوم (1964) هذه الصلة في المذكرة التي سلمها لأعضاء منظمة الوحدة الأفريقية التي استضافها ناصر. 


مؤخرًا، تم الخلط بين ثلاثة طلاب كينيين وزنوج أمريكان وتعرض الطلاب للضرب المبرح على يد شرطة نيويورك. بعد ذلك بوقت قصير، تعرض اثنان من الدبلوماسيين الأوغنديين للضرب على يد شرطة مدينة نيويورك، التي اعتقدت خطأ أنهما من الزنوج الأمريكيين. إذا تعرض الأفارقة للضرب المبرح أثناء زيارتهم لأمريكا فقط، تخيل المعاناة الجسدية والنفسية التي تلقاها إخوتك وأخواتك الذين عاشوا هناك لأكثر من ثلاثمائة عام. مشكلتنا هي مشكلتك. 


بعد عودته من رحلته المرحلية إلى مكة، كان مالكوم حريصًا على عدم قصر أهمية النضال الأمريكي الأسود على الأفارقة السود. انعكس تحوله بعيدًا عن القومية السوداء لأمة الإسلام نحو رؤية العالم الثالث للمقاومة في خطابه لجميع الحاضرين في مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية (1964):


لن تحل مشاكلك بالكامل أبدًا حتى تحل مشكلاتنا . . . لن تميز أبدًا كإنسان حر حتى، وما لم يتم تمييزنا أيضًا ومعاملتنا كبشر. مشكلتنا هي مشكلتك. إنها ليست مشكلة الزنجي وليست مشكلة أمريكية. إنها مشكلة عالمية، مشكلة البشرية.


جغرافيتين للتحرير متأصلين في تنظير مالكوم. من ناحية، أمضى غالبية المذكرة في ذكر "أفريقيا" والتأكيد على سياسات الهوية الإفريقية الخاصة بالولايات المتحدة: أفريقيا باعتبارها "القارة الأم"، وحاوية رسم الخرائط للإمكانية البديلة وتقرير المصير. من ناحية أخرى، يقدم مالكوم مفهوم "مشاكل العالم" و "السلام العالمي"، كخطوة تتجاوز أفريقيا ببساطة نحو تخيلات العالم الثالث.

جاء هذا التحديد المتمثل في تغيير المناطق الجغرافية في علم أنساب المقاومة الأمريكية السوداء (من الحدود الوطنية للولايات المتحدة في الخمسينيات إلى عموم أفريقيا في أواخر الستينيات، وفي نهاية المطاف العالم الثالث في السبعينيات) لتعريف صحافة ديفيد غراهام دو بويز، ليس فقط من خلال نشره كتابات مالكوم إكس في الإجيبشيان غازيت، ولكن أيضًا في دوره كمحرر لصحيفة الفهود السود في كاليفورنيا ومقرها أوكلاند. في عمله مع الأخير، لعب دو بويز دورًا حاسمًا في نسج التضامن الفلسطيني في خريطة العالم الثالث لمقاومة السود في الولايات المتحدة. ولكن على الرغم من إضفاء الطابع الإقليمي على المقاومة الأفرو-أمريكية من أفريقيا لتشمل أمريكا اللاتينية وآسيا أيضًا، ظلت جغرافيا أفريقيا موضع اهتمام مركزي لخصوصيات شخصيات الرواية وعائلة دو بويز بشكل عام.







[1] لم يكن وليام إدوارد بورغاردت دو بويز والد ديفيد غراهام دو بويز بل زوج أمه.


لقراءة الجزء الثاني





آية أبو باشا باحثة مصرية حاصلة على درجة الماجستير في الأنثروبولوجيا من الجامعة الأمريكية بالقاهرة ودرجة البكالوريوس في الأنثروبولوجيا مع مرتبة الشرف من جامعة واشنطن.





Comments