واِدعوه للغناء ...

ديفيد غراهام دو بويز







الفصل الأول


استمع سليمان لمدة لم يتبيَنها إلى الأصوات المُعتادة الآن للطابق الثالث المزدحم. اخترقت الرائحة الحريفة للطعام المحمّل بالزيت أحلامه المتقطعة، وتدفقت نُتف منها إلى وعيه وهو غافٍ على ملاءة مبللة بالعرق. التفت الجلابية التي يصل طولها إلى الكاحل حول فخذيه. وُضِعت الملاءة العلوية في عقدة محكمة تحت المرتبة المتكتلة. أفسحت برودة الصباح المجال الآن إلى حرارة منتصف النهار.


خاف أن يفتح عينيه. كان قد دهن الغرفة الصغير قبل أن ينتقل إليها بشهرين. ولكن الدهان كان خليطًا رخيصًا تمت إضافته باستخدام فرشاة قديمة، بدأ في التلاشي والتقشر. جهوده لإزالة البقع التي خلفتها الرؤوس المُزيتة والأيدي المتسخة والغبار والأوساخ التي دخلت من النافذة الوحيدة تركت بقعًا من الجص المكشوف. كانت النافذة الوحيدة هي المشكلة الأكبر، كانت تطل على مَنَور ضيق. قطعت الطوابق الثلاثة التي تعلوه معظم الضوء القليل ومنعت أي شيء سوى نسيم خافت. لكن استخدام المَنَور كصندوق قمامة عمومي هو الذي تسبب في حدوث مشكلة بحق. في الشهر الأول، كادت شكواه حول هذه الممارسة تسبب له مشاكلًا خطيرة مع المستأجرين فوقه. ومع ذلك، سرعان ما علم أن كل من لديه فتحة على المَنَور يضرب ويهز البسط، يلقي القمامة، أعقاب السجائر وقشور البرتقال وكل شيء آخر عبرها بشكل عشوائي. ليس بوسعه فعل شيء لإيقاف الأمر.كان على يقين من أن كل شيء يأتي من فوق يسقط إما على عتبة النافذة أو في غرفته.


كان ممتنًا لأن الجو كان دافئًا بما يكفي للاستحمام. تسائل أين كريمة، وخمن إنها على الأرجح في آخِر الرواق أو ذهبت للتسوق. أمل على الأقل أن يكون أحد هذين الأمرين. لم يكن يثق فيها تمامًا قط، رغم أنها كانت حريصة جدًا على أن لا تمنحه أسبابًا. حاول ألا يفكر في الأمر. فرغم كل شيء، بإمكانه أن يتخلص من الأمر كله بأن يقول على الطريقة الإسلامية، "أنتِ طالق" ثلاث مرات، وسينتهي الأمر. كان غالبًا ما يقول لنفسه أنه إذا امتلك سببًا يدعوه إلى تصديق أنها عادت إلى طرقها القديمة، فإن ذلك ما سيفعله بالضبط.


لكنها كانت جيدة في مساعدته على الاستحمام. كان هذا الترتيب مزعجًا في البداية. تكون الدش من صنبور واحد به ماء بارد يتساقط عبر دش عتيق معلق فوق فتحة مقعرة في الأرضية. كانت الفتحة للاستحمام والتبرز. حين رأى الغرفة أول مرة، ظهرت دلائل استخدام الفتحة للغرض الأخير عبر الفضلات حول حوافها. نظفها بمحلول قلوي وفرشاة خشنة. كان الحمام الصغير مفصولًا عن الغرفة بفاصل خشبي رفيع، وقد احتل إلى جانب حوض صغير قبالته ذاك الجانب من الغرفة على بعد أربع ياردات تقريبًا.


كانت كريمة تسخن الماء في الوابور لكي يأخذ حمامه، تخلطه بماء بارد وبرفق تسكب السائل الفاتر فوقه بينما يغتسل بالصابون. بدا أنها تستمتع بالأمر كثيرًا، لهذا كان يتركها تقوم به ... أغلب الوقت. لكن في بعض الأحيان لم يتحمل أن يجعلها تساعده بهذه الطريقة. لقد أقنع نفسه أنها تقوم بالأمر بداعي الشفقة بسبب ساقه المتضررة. وبدلًا عن رفض عرضها التلقائي حين يذكر الاستحمام، كان يؤجل الاستحمام حتى تغادر. لم يكن ينزعج إلا لو كان هناك أمر طارئ. ولم تكن تشتكي أبدًا من رائحة تعرق جسده غير المغسول. كان الأمر مؤلمًا له فقط.


خمن أن الساعة الواحدة تقريبًا، من رائحة الطهي والصخب المتعالي القادم من الممر. كان قد فوت حصصًا صباحية أخرى في الأزهر. لكن ذلك لم يهم كثيرًا. سوف يذهب في بداية الأسبوع، يختلق عذرًا لغيابه في اليوم السابق ويتصرف بحماس، وإن كان غير دقيق. كان يعلم أن معلمه، كونه مصريًا أكثر من كونه مدرسًا، سيكون أكثر إعجابًا بالحماس من انزعاجه من عدم الدقة، وبالتالي سيغفر تغيبه. لقد تخلى منذ فترة طويلة عن دراسته للغة العربية. رُصت كتبه القليلة المليئة بالغبار في صف واحد على طاولة صغيرة أمام النافذة. كانت الطاولة والكرسي المتهالك المستقيم الذي تم دفعه تحتها هما قطع الأثاث الأخرى الوحيدة في الغرفة. شغل السرير الخشبي الكبير معظم المساحة. تموضع بقوة بين جدارين. وفصله ممر بعرض قدم ونصف عن الثالث. كانت المساحة المتبقية عبارة عن مربع تشكل بواسطة لوح السرير، الطاولة أسفل النافذة، الفاصل الخشبي بين المرحاض والغرفة، والباب المقابل للنافذة الذي يفتح على الممر. قياس هذا المربع حوالي ثلاث ياردات على كل جانب.


كانت هذه الغرفة الضيقة المختنقة الخالية من النشاط البشري هي ما خشي أن يفتح عينيه عليها. كانت ملابس كريمة هناك بالطبع، كلها معلقة في علاقات مثبتة بمسمار واحد كبير على الحائط فوق السرير. كانت التنانير الواسعة ذات الألوان الزاهية المصنوعة من القطن الرخيص والتنانير التحتانية القاسية المصنوعة من الموصلي - وهي ملابسها المفضلة - تبرز بعجرفة من الحائط. عُلِقت بذلتيه وسراويله الإضافية في حقيبة السفر القماشية القابلة للطي التي أحضرها معه. عُلِق كل هذا بواسطة مسمار آخر في الحائط فوق نهاية الممر بجانب السرير. لا توجد خِزانة في الغرفة.


البقاء وحيدًا أخافه، رغم أنه لم يكن وحيدًا بحق أبدًا في هذه الغرفة. كان هناك دومًا آخرون على القرب منه، يطوفون ويتحركون عبر الممر. كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لاستئجاره هذه الغرفة. حين رآها أول مرة علم أنه لن يكون وحيدًا أبدًا هنا. في البداية كان يترك بابه مشرعًا طوال الوقت، مثل جميع من كانوا في الطابق، لأجل النسيم الإضافي الذي يؤمنه والترحابيّة التي يقترحها الباب المفتوح. لكن الأمر لم ينجح. كان الجميع في ذلك الطابق - في المبنى بأكمله - يعلمون أنه من أمريكا، لكنه نفى بغضب شديد أنه أمريكي. كانوا يعرفون أيضًا أنه مسلم، أو يدعي أنه كذلك، وأنه يذهب كل يوم جمعة إلى صلاة الظهر في المسجد المحلي. لقد سمعوا أنه طالب في الأزهر، ولكن لم يكن أحد على يقين من السبب. كانت هذه المرة الأولى التي سمعوا فيها عن أمريكي يرغب في الخضوع للصرامة الأسطورية للتدريب الديني هناك. وكان أمريكيًا أسودًا، هذا الشيء الغريب الذي عرفه معظمهم تقريبًا عبر الطرائف والإنجازات التي حققها محمد علي كلاي، حيث أصروا على مناداته بذلك الاسم.


دعا باب سليمان المفتوح إلى الإجابة على أسئلتهم العديدة. وسرعان ما وجد نفسه وغرفته مركز جَذب للمبنى. حاول في البداية الترحيب بكل الفضوليين. أجاب جميع أسئلتهم بقدر استطاعته عبر لغته العربية المحدودة، كان يعرض عليهم جميعًا الشاي متى توفر. يقترح مشاركتهم غدائه، وعشائه أو فطوره، اعتمادًا على ساعة الزيارات، وتعلم بسرعة أن الرفض الأول كان الهدف منه عادةً اختبار مدى صدق العرض. جاء المزيد والمزيد، أبدوا جميعًا تعجبهم، رافضين تصديق أن أمريكيًا كان يعيش بينهم، وقد تزوج من راقصة ملهى درجة ثالثة ذات أصول مصرية وسودانية مختلطة، والتي قال الجميع إنها عاهرة. رغم كل شيء، فقد توقعوا رؤية أميركيين مثل الذين رأوهم في الأفلام، أو قرأوا عنهم في الصحف أو سمعوا عنهم على أجهزة الراديو. مثل السواح المتفرقين الذين رأوهم يتجولون في منطقتهم.





* سوف ينشر الفصل الأول على ثلاثة أجزاء.

* للوصول إلى الجزء الثاني من الفصل الأول اضغط هنا



 

Comments