... واِدعوه للغناء

ديفيد غراهام دو بويز

رسم لغرفة سليمان، لـ مويرة علي


الفصل الأول

الجزء الثاني



لم يفهم سليمان سبب الإحباط الذي رآه في أعينهم. لكنه رآه وتألم بشدة. وقد تألم أكثر من أي شيء آخر من إصرارهم على مناداته بالأستاذ أو يا سيدي، ورفضهم مناداته بـ "الأخ". حين تحدث عنهم كأفارقة، أدرك بشكل مؤلم أن فكرة أنهم أفارقة لم تخطر ببال معظمهم أبدًا؛ وأنهم يفكرون بأنفسهم كمصريين فقط. سرعان ما كان انزعاجه يتحول إلى غضب، لذلك غالبًا ما بدأ كمحادثة متمهلة مهذبة، ينتهي بمحاولته السيطرة على فورة غضب لم يكن من الممكن أن يتقنها بلغته العربية المحدودة على أي حال. ما يخرج حتمًا سيكون قليلًا من الكلمات النابية التي لن يفهمها أي من مستمعيه. لكن حواسهم الاجتماعية المضبوطة بدقة كانت تتلقى رسالة مفادها أن المقابلة قد انتهت. كانوا يقدمون أعذارهم واحدًا تلو الآخر ويبتعدون على مضض، ويقتنعون للحظات فقط بالتوقف وقبول مناشدته العاجلة لتناول كوب آخر من الشاي. وقد لاحظ هذه الطقوس بين المصريين كلما افترقوا، مهما كانت الظروف، وكان يعلم أنه عبر القيام بذلك، قام بإصلاح بعض الضرر الناجم عن غضبه.


بمرور الوقت قرر إبقاء بابه مغلقًا. نجح الأمر بالطبع. كان الباب المغلق في ممره يعني إما أن شاغلي الغرفة كانوا في الخارج أو أنهم منخرطون في نشاط حميم للغاية. لكن الباب الذي كان يُغلق باستمرار حين يكون شاغلو الغرفة بالداخل كان بمثابة إهانة من أسوأ الأنواع لكل من في الممر؛ عمل غير ودي ومعادٍ للمجتمع. ومع ذلك، فقد تم التسامح معه في البداية على مضض ثم تم العفو عنه لأنه كان أجنبيًا، وكان الجميع يعلم أن الأجانب يفتقرون إلى أبسط النعم الاجتماعية. قلة منهم قالوا لأنفسهم: "لن يتصرف أي أخ لي بهذه الطريقة".


كان سليمان على وشك أن يفتح عينيه، أو على الأقل هذا ما قاله لنفسه في جزء من الثانية بين الطرق على الباب ووعيه بالأمر، حين عاد الطرق الخفيف والعاجل مرة أخرى. كان يعلم أنه سيكون سيد، وتدفقت وحدته المخيفة خارجه عبر فيض كبير من الشعور الجيد، يمكن مقارنته بذاك الناتج عن تفريغ معدتك بشكل تام. صاح بينما يدفع نفسه على السرير: "أيوة، أيوة، اتفضل".


فتح سيد الباب ودخل الغرفة بخجل، وامتلأت عيناه السوداوان بالتوقير والاعتذار. كان سليمان واقفًا على قدميه وتصافحا بقوة.


قال سليمان بلغة عربية متواضعة، "أهلًا، أهلًا، أهلًا. السلام عليكم يا أخي. أهلًا! كيف حالك؟"


"وعليكم السلام. أهلًا بك أخي سليمان. لقد اشتقت إليك. كيف حالك؟"


أجاب سليمان: "الحمد لله"، وهو يندفع عائدًا إلى السرير، مشيرًا إلى مكان على السرير لسيد. خلال هذه العملية، مد يده إلى مجموعة من الصحف والأغلفة الورقية على صندوق موضوع بجانب السرير وأخذ علبة سجائر. قال وهو يدفع بالعلبة نحو سيد: "اتفضل".


كان تردد سيد ضئيلًا، لكن رد فعل سليمان كان فوريًا لا لبس فيه. كان يتألف من دفع علبة السجائر بشكل طفيف للغاية ولكن عنيف نحو سيد وتعبير عابر حول فمه من نفاذ الصبر والانزعاج. والذي اختفى في لحظة عندما قبل سيد السيجارة وأشعلها.


اعتبر سليمان سيد أقرب أصدقائه المصريين. باستثناء ما قاله سليمان لنفسه، لم يكن سيد مصريًا حقًا. كان، في الواقع، نوبيًا مصريًا، وله لون وملامح الجنوب الكثيفة، في تناقض ملحوظ مع رأسه ذي الشعر الأسود الكثيف والخشن والمفرود. بالطبع، علم سليمان أن هناك نوبيين مصريين بالإضافة إلى نوبيين سودانيين. لكنه اختار التفكير في النوبيين على أنهم سودانيين في الغالب. جعلهم ذلك أفارقة بالنسبة له، وبالتالي، من أهل الوطن. كان لسيد لون الأرض الرطبة في دلتا النيل الغنية. شفتاه ممتلئتان وأغمق إلى حد ما من بشرته، وتُأطر أسنان كبيرة ملطخة بشدة. كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا وقد نما له شارب كامل في المساحة الواسعة فوق شفته العليا، أنفه كبير ومسطح ومندفع نحو وجهه بطريقة تمكن المرء من أن يرى خلال فتحتي أنفه، وجبهته منخفضة وشعره، المدهون بشكل مفرط، يتمتع بمظهر اصطناعي. كانت ياقة قميصه مهترئة، سراويله الرخيصة ملطخة ومجعدة، وحذائه البالي مصقول مؤخرًا.


متجاهلًا إشارة سليمان إلى وجود مكان على السرير، سحب سيد الكرسي بحذر شديد من أسفل الطاولة، ودفعه بالقرب من قدم السرير وجلس على حافته بتوقير كان دائمًا يفترضه في حضور سليمان. كان سليمان قد لاحظ أن سيد لم يبدُ مرتاحًا أبدًا سواء على الكرسي أو على السرير، ففحص الرفض الذي شعر به. لطالما بدا سيد مرتاحًا للغاية حين يجلس على الأرض.


جاء سيد دون سبب محدد، إلا أنه كان يأتي دائمًا. كان هناك في الليلة السابقة، جالسًا على الأرض يحضر الأوعية الفخارية للحشيش لسليمان وأصدقائه الأمريكيين الثلاثة، كمال وإبراهيم ومحمد. كان سعيدًا تمامًا حينها، كما كان دائمًا عندما يُسعد سليمان. ولم يبد سليمان أسعد أبدًا من اللحظة التي تهتز فيها غرفته الصغيرة بالضحك والمحادثة المنفعلة لأصدقائه الأمريكيين السود أثناء تمرير الجوزة. صنع سيد الجوزة من جرة عسل وسدادة مطاطية وقصبة طويلة مجوفة من الخيزران. في تلك الأوقات لم يكن سيد يهتم أبدًا بأنه لا يفهم ما يقال، ولا يمكنه المشاركة في النكات أو في المحادثة. لقد ظل مشغولًا بالجوزة. إلى جانب ذلك، فإن الخفة اللطيفة والتنميل الناجم عن الحشيش زودته بتخيلاته الخاصة التي نادرًا ما شاركها مع أي شخص على أي حال.


أحيانًا يقاطع سليمان المحادثة مع أصدقائه في محاولة لترجمة نكتة أو حدث إلى العربية. فهم سيد أن هذه كانت طريقة سليمان لجعله يُحس بأنه جزء من الأحداث، وحاول الرد بشكل مناسب، رغم أنه في معظم الأوقات لم يفهم ما كان سليمان يحاول قوله. في كل مرة كان سيد يسلم سليمان الجوزة، كان سليمان يشكره بالطريقة التقليدية الشائعة بين رفاق التدخين المصريين، وعيناه تتوهجان بالامتنان. يجيب سيد بالمثل بلطف. بينما كان سليمان يسحب الجوزة بشدة، كان سيد مشغولًا بترتيب القطع الصغيرة من الفحم الأحمر الساخن والضغط عليها حول قطعة الحشيش المفلطحة التي توضع فوق التبغ المِعسل. كان سيد دائمًا محرجًا ومربكًا من الامتنان الذي رآه في عيني سليمان. عندما لم يكن مع سليمان كان يعتقد في كثير من الأحيان أنه أساء فهمه. "هل من الممكن أن هذا الأمريكي يريد حقًا أن يكون صديقي؟" استمر في العودة إلى غرفة سليمان للتأكد. طمأنته التحيات التي تلقاها على الدوام. كان يقول لنفسه: "أنا لست مخطئًا. هذا صحيح. سليمان سعيد دائمًا برؤيتي، لا يمل مني، يريدني أن أكون صديقه". بحث سيد عن طرق عملية للتعبير عن امتنانه له وقبل بفارغ الصبر أي فرصة أتيحت له. وشعر أن مجرد وجوده مع سليمان في غرفته يسعده، لذلك قرر أن يأتي كثيرًا قدر الإمكان. كان هذا على الأقل مرة واحدة في اليوم.


قال سيد بالطريقة البطيئة والمدروسة التي كان يتحدث بها العربية إلى سليمان: "يقول جوزيف إنه سيكون هناك عمل مرة أخرى في غرين لانترن". كان صوته خافتًا ونادرًا ما يتنوع في حدته أو قوته. "إنه لا يعرف كم ليلة. لكنه يقول إنهم سيدفعون لنا جنيهين في الليلة".


كان سيد واحدًا من عازفي الطبول في فرقة الرقص التي نظمها جوزيف وأدارها وقام ببطولتها. ضمت المجموعة ثلاث فتيات، كانت كريمة واحدة منهن. رآها سليمان لأول مرة على خشبة المسرح في كباريه غرين لانترن.


قال سليمان "مبروك!. ذلك رائع." تذكر الآن أن سيد قال شيئًا حول هذا الأمر في الليلة السابقة. فكر وقتها أنه من المحتمل أن يحصل جوزيف على ثلاثة جنيهات، ويحتفظ بواحد لنفسه ويقسم الباقي. لكن الأخبار كانت موضع ترحيب على أي حال لأنها تعني أن كريمة ستحصل على حوالي أربعين قرشًا في الليلة عندما تبدأ. بذلك ستكون قادرة على توفير احتياجاتها الخاصة. كان عليه فقط أن يعطيها المال مقابل الطعام. كان ذلك يعني أيضًا أن جوزيف كان سيظهر بانتظام ويحضر الحشيش - بسبب شعوره بالذنب لسرقته من الآخرين. سيكون ذو جودة رديئة ولن يكون هناك الكثير، لكنه سيكون أفضل من لا شيء. لهذا السبب لم يقل سليمان شيئًا لكريمة أو سيد عن سرقة جوزيف منهم. على الرغم من أنهما لم يذكروا ذلك مطلقًا، كان سليمان متأكدًا من أن جوزيف يعرف أنه يعرف. وهكذا نشأت رابطة سرية بينهما. مؤامرة عرفها جوزيف أنها ستستمر فقط طالما قدم الحشيش. لم يحب سليمان جوزيف، لكنه تحمله بسبب الحشيش وبسبب كريمة وسيد. لقد شعر أن جوزيف قد إدار أعمال الفرقة وعلاقته الخاصة العديدة والمتنوعة بطريقة رجل استخدم كل ما في وسعه لإشباع رغباته الخاصة. كان جوزيف قد قدمه إلى كريمة في تلك الليلة الأولى في غرين لانترن، وأحضرها إلى المكان في جاردن سيتي.


كان سيد يخبر سليمان عن حفل زفاف كان سيعزف فيه ليلة الخميس القادمة عندما فتح الباب على مصراعيه ودخلت كريمة وهي تحمل عدة بُقَج مغلفة بالصحف. تبعها جوزيف مباشرة. قفز سيد من كرسيه، احترامًا لجوزيف أكثر من كريمة وحياهما. تحية كريمة لسيد كانت واقعية، وإن لم تكن غير مهذبة، وكأنها تتوقع أن تجده هناك؛ عبرت بجانبه وركعت على السرير وقبلت سليمان في فمه. غطى سليمان حرجه بفظاظة "أين كنت؟" "في السوق. قابلت جوزيف في طريقه إلى هنا". تحدثت إليه بلغة عربية مبسطة مصممة حسب قدرته في اللغة. التواصل المتعمق تُرك لأخطار البديهة.


أصر سليمان منذ البداية على طقوس الترحيب وقبلة الوداع رغم اعتراضها. لم تمانع القبلات. في الحقيقة، لقد استمتعت بها. لطالما كانت الطريقة التي يستخدم بها فمه في ممارسة الحب مثيرة بالنسبة لها. ولكن نظرًا لوجود غرفة واحدة فقط ولأنه كان هناك دائمًا أشخاص آخرون حولها، فقد اعترضت. حاولت أن توضح له أن مثل هذا الشيء لا يحدث أبدًا في وجود الآخرين في مصر. كانت تعلم أنه يتم من قبل الأجانب. لكن لا يمكن لأي امرأة مصرية أن تتوقع الهروب من ازدراء المصريين الآخرين إذا فعلت ذلك. لم يفهم سليمان ما قالته إلا جزئيًا، لكن اكتشاف لمحة الرعب في صوتها وأُسلوبها أغضبته؛ كانت تلك المرة الأولى التي يضربها فيها بقوة بظهر يده على فمها. احتجاجه المتواصل على أنها ملكه الآن؛ أنه لا يهم ما يعتقد الناس وأنها يجب أن تقوم بما يريده تمامًا وأنه سيحميها من اِزدرائهم، هو فقط ما أسكت احتجاجها. كان هذا صحيحًا. لقد كانت تنتمي إليه الآن وكان عليها أن تفعل ما يريده بالضبط. أرادت أن تفعل ما يريده بالضبط. لكن لم يكن صحيحًا أنه لا يهم ما يعتقده الناس، ولا يمكنه حقًا حمايتها من اِزدرائهم. لكن تعبيره عن رغبته في القيام بذلك هو الذي أسكتها، وأزال الجرح. انتابها حنان كبير لحظة إدراكها أنه تزوجها لحمايتها من "اِزدرائهم". تتذكر هذا في كل مرة كانت تقبله في حضور الآخرين.


كانت تحية الرجلين رسمية ولائقة. سأل كل منهما عن صحة الآخر وأبنائه وأعماله وأخباره "بترحيب" متكرر. عرض سليمان السجائر على جوزيف، فأخذ واحدة دون تردد، ثم جلس على السرير. أخذ جوزيف مكانًا على حافة السرير، وأشعل سيجارته وبدأوا محادثة.


كان جوزيف من قرية صغيرة في جنوب السودان. كان مسيحيًا، أو بالأحرى تم تعميده مسيحيًا كطفل لكي يتمكن من دخول مدرسة الإرسالية. كان طويلًا. يزيد عن 180 سم، ونحيفًا، بعضلات طويلة وعظام عريضة. اعترف سليمان بتردد أنه كان على الأغلب أحد أكثر الرجال الذين رآهم قبحًا. كانت جبهته مرتفعة وضيقة ومتجعدة، مع حاجبين يصعب رؤيتهما فوق عيون صغيرة خرزية بياضها محتقن بالدم ومصفرة على الدوام. تبرز عظام وجنتيه المرتفعة فوق وجنتيه الجوفاء الغائرة. يتناقض أنف صغير مسطح بشكل حاد مع فمه الكبير المؤطر بشفتين نحيفتين منحوتتين والتي كانت دائمًا تقريبًا مفتوحة لتكشف عن أسنان صفراء ملطخة بالتبغ. كان ذقنه الزاوي يحتوي على عدد قليل من الشعرات المتناثرة التي يُفترض أنها تهدف إلى أن تكون لحية. لكنه كان أسودًا سوادًا لم يره سليمان قبلًا في حياته. كان هذا، سواده، هو الذي أوصل جوزيف إلى حياة سليمان. وكان سواده هو الذي أبقاه فيها.



لطالما شعر سليمان بالذنب عند رؤية جوزيف. رغم كل شيء، كان جوزيف أفريقيًا بالفعل، كما ذكر سليمان نفسه مرارًا وتكرارًا. أخبره جوزيف قصة كيف وجد طريقه وهو لا يزال صبيًا، شمالًا إلى الخرطوم ثم إلى القاهرة، سيرًا على الأقدام وبواسطة باخرة نيلية خلال معظم الطريق، منجذبًا إلى المدن الكبرى بوعد الثروة والحياة الطيبة التي تقدمها للأذكياء والطموحين. لم ينجح الأمر على هذا النحو تمامًا. ﻷن افتقاره إلى أي تدريب أو خبرة خاصة جعل العثور على وظيفة صعبًا.


كان بإمكانه بالطبع أن يخدم على الطاولات في أي من مطاعم أو فنادق القاهرة العديدة، أو يدخل الخدمة. لكنه اعتبر هذا العمل مهينًا وشاقًا وغير مناسب لطموحه. كان من الممكن أن يجد عمالة يومية، لكنه لم يفكر قط في هذا الاحتمال. كان موقفه هو أن مثل هذا العمل كان للفلاحين الذين وصلوا مؤخرًا من قرى الدلتا والذين يعتبرون أنفسهم محظوظين للحصول على قروش قليلة يتقاضونها كل يوم. ذلك بالتأكيد لم يكن له. سيجد طريقة.




* الجزء الثاني من الفصل الأول.

* للوصول إلى الجزء الأول من الفصل الأول اضغط هنا


Comments