الطرائق المُرتجلة للإبداع: من نهضة هارلم إلى فرقة جاز القاهرة

1/3

كوتي ويليامز يعزف على البوق في قاعة حفلات مزدحمة في هارلم مع فرقة ديوك إلينغتون في الثلاثينيات.

"أؤمن أن مصالح وفرص [الأمريكيين الأفارقة] في هارلم أعظم من أي مكان آخر في البلد، وأن هارلم ستصبح المركز الفكري، الثقافي والمالي للزنوج في الولايات المتحدة وسوف تبذل تأثيرًا حيويًا على كل الشعوب الزنجية". 

جايمس ويلدون جونسون، "هارلم: العاصمة الثقافية"، 1925

مكة الزنجي الجديد

لنتحدث عن تاريخ الجاز في مصر يجب أن نعود بالرحلة إلى الوراء قليلًا ونتحدث عن عصر نهضة هارلم في الولايات المتحدة. ظهرت النهضة في حي هارلم نتيجة لانتقال عدد كبير من العائلات السوداء متوسطة الدخل من أحياء أخرى، والذين كانوا يعرفون حينها بالبوهيميين السود لاعتناقهم نمط حياة مختلف ومساعيهم التي لطالما ارتبطت بالموسيقى والأدب ومختلف الفنون الأدائية. رغم أن الحي تم بناؤه في الأصل للطبقة البيضاء الغنية، في عام 1880م، إلا أن الإفراط في التطوير أدى إلى خلو البنايات ويأس ملاك الأراضي ومحاولاتهم المستميتة لإيجاد مستأجرين، نتج عنه تنامي الثقافة السوداء هناك واعتبرت الفترة من 1910م وحتى 1930م الفترة الذهبية للثقافة السوداء. أحد أسباب الانفجار السكاني الأسود في المنطقة أيضًا كان انتقال الأمريكيين الأفارقة من الجنوب إلى الشمال فيما عرف لاحقًا بالهجرة الكبرى. فمع نهاية الحرب الأهلية في عام 1865، بدأ مئات الآلاف من الأمريكيين الأفارقة المحررين حديثًا من نير العبودية في الجنوب يحلمون بالمشاركة الكاملة في المجتمع الأمريكي، بما في ذلك التمكين السياسي والفرص الاقتصادية المتكافئة والتثقيف الذاتي.

تداعى هذا الحلم إلى حد كبير بحلول أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث أقر المشرعون البيض قوانين الفصل العنصري الصارمة المعروفة باسم "قوانين جيم كرو" على مستوى الولايات والمستوى المحلي، وقد كان هدفها بشكل أساسي جعل الأمريكيين الأفارقة مواطنين من الدرجة الثانية واستمرار السيادة البيضاء. بينما تمكن عدد قليل من الأمريكيين الأفارقة من أن يصبحوا ملاكًا للأراضي، فقد تم استغلال البقية كمزارعين، في نظام صمم خصيصًا لإبقائهم فقراء وعاجزين. خلال تلك الفترة أيضًا كثفت الجماعات العنصرية مثل كو كلوكس كلان (KKK) عمليات إعدام السود خارج نطاق القانون وقامت بحملات إرهاب لمنعهم من التصويت أو ممارسة حقوقهم الأساسية الأخرى.

مع ازدهار الاقتصاد في جميع أنحاء الشمال والغرب الأوسط، توفرت وظائف للعمال من جميع الأعراق، وأدرك العديد من الأمريكيين الأفارقة أن آمالهم بمستوى معيشي أفضل - وبيئة أكثر تسامحًا من الناحية العرقية - تكمُن خارج الجنوب. بحلول مطلع القرن العشرين، كانت الهجرة الكبرى جارية، وانتقل مئات الآلاف من الأمريكيين الأفارقة إلى مدن مثل شيكاغو ولوس أنجلوس وديترويت وفيلادلفيا ونيويورك. اجتذب حي هارلم في مانهاتن ما يقرب من 300,000 أمريكي من أصل أفريقي، الأمر الذي جعله أحد أكبر نقاط تجمع للسود في الولايات المتحدة. أصبحت هارلم وجهة للأميركيين الأفارقة من جميع الخلفيات. من العمال إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، الذين تشاركوا تجارب متشابهة حول العبودية والتحرر والقمع العنصري.

جذبت الهجرة الكبرى إلى هارلم بعضًا من أعظم العقول وألمع المواهب في ذلك الوقت، مجموعة مذهلة من الفنانين والعلماء الأمريكيين الأفارقة، ومعًا أنتجوا أحد أهم عصور التعبير الثقافي في تاريخ أمريكا - نهضة هارلم. من بين أهم المساهمين في عصر النهضة مفكرين مثل وليام إدوارد بورغاردت دو بويز، جيسي فاوسيت، جايمس ويلدون جونسون، ماركوس غارفي، سيريل بريغز، والتر فرانسيس وايت؛ فنانين تشكيليين مثل آرون دوغلاس، أرشيبالد جون موتلي وأوغستا سافاج؛ كتاب وشعراء مثل لانغستون هيوز، زورا نيل هيرستون، كلود مكاي، إيفي لي نيوسوم، كونتي كولين؛ مؤدين مثل جوزفين بيكر، ميلدريد ديكسون وبول روبسون؛ وقائمة استثنائية من الموسيقيين الأسطوريين، مثل لويس أرمسترونغ، فلتشر هاندرسون، بيسي سميث، كونت باسي، يوبي بليك، كاب كالواي، ديوك إلينغتون، بيلي هوليداي، آيفي أندرسون، أيدا وورد، فاتس والر، جيلي رول مورتون، فور ستيب برازرز، ذا ميلز براذرز،  أفون لونغ، جوقة ويل فوديري، نينا ماي وآخرين لا حصر لهم. 

الراقصتان بيسي دودلي وفلورنس هيل مع ديوك إلينغتون في نادي القطن

جوزفين بيكر ورقصة الشارلستون

بدا الأمر كما لو أن عصر نهضة هارلم هو محاولة لإعادة تعريف الزنجي، "الزنجي الجديد" إن صح التعبير؛ فوفقًا لآلن لوك الذي سن المصطلح في الكتاب الذي حرره وعُنون بـ "الزنجي الجديد: تَأوِيل[1]"، فإن "الزنجي الجديد" لديه وعي أكبر بذاته وإدراك أكبر لها، لا يفتقر لاحترام الذات، يرى الإمكانات الجديدة التي تبدت أمامه ولا يخشى تغيير قوانين اللعبة؛ وهو بذلك نقيض "الزنجي القديم"، ذلك الزنجي العجوز حسب لوك الذي دائمًا ما كان "مخلوق نقاش أخلاقي وجدل تاريخي". فقد كان مقيدًا بأغلال العبودية الفجة التي أُجبر على العيش فيها. كان أداة يجب تشغيلها وتحريكها وأمرها بما يتوجب عليها فعله. كان نتاجًا للقوالب النمطية والأحكام التي وضعت عليه، وليس تلك التي ابتكرها. فقد أُجبر دائمًا على العيش في ظلّ ذاته وأفعال الآخرين؛ يقول لوك ، "كان الأمر بالأحرى ضرورة التعبير عن الذات بشكل أكمل وأكثر صدقًا، وإدراك عدم الحكمة في السماح للتمييز الاجتماعي بفصلك عقليًا، واتخاذ موقف مضاد للتشنج وتقييد معيشتك - وبالتالي فقد تمت إزالة "جدار الحقد" لحسن الحظ". يبين لوك أن للتمييز الاجتماعي قدرة على التأثير عليك وإحباطك والحد من قدراتك، لذلك فإن التعبير الذاتي مهم لإظهار كينونتك وما أنت عليه، وبالنسبة له فإن فكرة التعبير عن الذات مضمنة في الشعر والغناء والعزف والتعليم ومختلف مناحي حياة الزنجي.

ديوك إلينغتون - لا تعني شيئًا

لويس أرمسترونغ

عصر الجاز 

تطور الجاز من الراغتايم، وهو نوع موسيقي يستخدم اللحن الرخيم القوي مع الإيقاع المتسق المنتظم. تصاحب المقطوعات الموسيقية المعزوفة على البيانو نغمات إيقاعية منتظمة من الجانب الأيسر، ولحن شديد الاتساق من الجانب الأيمن؛ أصبح مصطلح الراغتايم يستخدم تدريجيًا للأشكال الأولى من موسيقى الجاز. كان لعصر موسيقى الجاز تأثير استثنائي على الأفراد والجماعات داخل المجتمع الأفرو-أمريكي وبالقدر ذاته على الصناعات الثقافية والموسيقى والأفلام والمسرح في أمريكا - والتي استفادت بشكل كامل من الإبداع والمساهمات المكتشفة حديثًا للأمريكيين الأفارقة. يذكر لوك في مختارات "الزنجي الجديد: تَأوِيل" الكيفية التي استخدم من خلالها الأمريكيون الأفارقة موسيقى الجاز للهرب من التمييز والفقر، والتمكن من رؤية أنفسهم خارج القالب المعد بأيدي الرجل الأبيض. كان هو أيضًا من قال إن عصر موسيقى الجاز كان "عصرًا روحيًا للنضوج" لكل الفنانين والمفكرين الأمريكيين الأفارقة، الذين انتهزوا "فرصتهم الأولى للتعبير الجماعي وتقرير المصير". استكشف شعراء وفنانو عصر نهضة هارلم، أمثال لانغستون هيوز، ويليام غرانت ستيل، جورجيا دوغلاس جونسون، ديوك إلينغتون وكلود مكاي، جماليات وآلام حياة الزنجي عبر موسيقى الجاز وسعوا إلى تعريف أنفسهم ومجتمعهم خارج الصور النمطية؛ الأمر الذي دفع بعض الفنانين البيض لإبداء اهتمام بالثقافة السوداء، واستخدامها – في شكلها الشعري، الموسيقى أو الأدائي- داخل أعمالهم حتى.

 

رغم أن تاريخ ظهور موسيقى الجاز يعود إلى فترة سبقت عصر النهضة في هارلم إلى أن معظم المؤرخين اعتبروه سمة مميزة لتلك الفترة، وربطوا النهضة بالجاز وحتى أن بعضهم أطلق عليها "عصر الجاز"؛ ظهرت موسيقى الجاز في البداية في الجنوب الأمريكي. وبحسب ما ورد فقد نشأت موسيقى الجاز بين الموسيقيين الذين عزفوا في الحانات وبيوت الدعارة في منطقة ستوريفيل في نيو أورلينز، لكنها اتخذت شكلها المميز والذي ارتبط بعصر النهضة في الملاهي الليلية في هارلم، مثل نادي القطن في شارع 142، جادة لينوكس (1923م - 1940م) الذي اعتبر نقطة انطلاق لمعظم فناني الجاز. 

[1] (الزنجي الجديد: تَأوِيل) هو مختارات من القصص الخيالية والشعرية والمقالات عن الفن والأدب الأفريقي والأفرو-أمريكي من تحرير آلان لوك، الذي عاش في واشنطن العاصمة ودرّس في جامعة هوارد خلال عصر نهضة هارلم. كمجموعة من الجهود الإبداعية المنبثقة عن حركة الزنجي الجديد المزدهرة أو نهضة هارلم، يعتبر الكتاب من قبل علماء الأدب والنقاد النص النهائي للحركة. تضمن  (الزنجي الجديد: تَأوِيل) مقال لوك "الزنجي الجديد"، بالإضافة إلى مقالات غير روائية وشعر وتخييل لكُتّاب من بينهم كونتي كولين ولانغستون هيوز وزورا نيل هيرستون وكلود مكاي وجان تومر وإريك والروند.

[2] The New Negro

* يتبع المقال الأسبوع القادم.

* الجزء الثاني

* الجزء الثالث