الطرائق المُرتجلة للإبداع: من نهضة هارلم إلى فرقة جاز القاهرة


2/3







"إنه إحساس غريب، هذا الوعي المزدوج، هذا الإحساس بالنظر دائمًا إلى الذات من خلال عيون الآخرين، بقياس الروح من خلال شريط العالم الذي ينظر إليها باحتقار وشفقة فكِهة. يحس المرء بثنائيته - أمريكي، زنجي؛ روحان، فكران، مقاومتان متصارعتان. نموذجان متنازعان في جسد داكن، تحفظه ​​قوته العنيدة وحدها من التمزق. إن تاريخ الزنجي الأمريكي هو تاريخ هذا الصراع - هذا الشوق للوصول إلى الرجولة الواعية، لدمج ذاته المزدوجة في واحدة أفضل وأكثر صدقًا. في هذا الدمج، لا يرغب في أن تضيع أي من ذاتيه القديمتين. إنه لا يرغب في أفرقة أمريكا، لأن أمريكا لديها الكثير لتعلمه للعالم وأفريقيا؛ ولا أن يبيض دمه الزنجي في طوفان من النزعة الأمريكية البيضاء، لأنه يؤمن - بحماقة ولكن بحماس أيضًا - أن الدم الزنجي لديه رسالة للعالم. إنه يتمنى ببساطة أن يصبح من الممكن للرجل أن يكون زنجيًا وأمريكيًا في نفس الوقت دون أن يلعنه زملائه، دون أن تغلق أبواب الفرص في وجهه". 

وليام إدوارد بورغاردت دو بويز- أرواح الشعب الأسود[1]







ظهر أسلوب جديد لعزف البيانو خلال عصر النهضة في هارلم، كان يسمى "هارلم سترايد"، وقد ساعد هذا الأسلوب على طمس الفروقات العرقية بين الأمريكيين الأفارقة الفقراء ونخبة الأمريكيين الأفارقة. تكونت فرق الجاز التقليدية أساسًا من الآلات النحاسية وكانت رمزًا للجنوب، بينما ارتبطت آلة البيانو - تاريخيًا - بالطبقة الغنية. ولكن ومن خلال التعديلات الفعالة، وإضافة آلة البيانو في فرق الجاز، أصبح لدى الأمريكيين الأفارقة الأثرياء اهتمام أكبر بموسيقى الجاز. بدأ الملحنين والمسرحيين البيض أيضًا باستخدام موسيقى وموضوعات الأمريكيين الأفارقة في أعمالهم؛ قام الكثير من الملحنين بتقديم أعمال تحوي قصائد كتبها شعراء أمريكيون أفارقة، كما أضافوا إيقاعات وألحان موسيقى السود – الجاز، البلوز والسول- للمقطوعات الموسيقية التي أعدوها. 


شجعت الجاذبية الدولية لموسيقى الجاز وعلاقتها بحياة السود، مصحوبة ببراعة موسيقييها، المفكرين السود بمختلف المجالات الأخرى على الاتجاه بشكل متزايد إلى الأشكال الجمالية "الزنوجية" كأساس للابتكار والتعبير عن الذات. ظهر هذا الاتجاه في الحفلات الموسيقية والمسرحيات في برودواي وكذلك في الأدب. افتتح الموسيقيين أوبي بلاك ونوبل سيسيل العرض الموسيقي "Shuffle Along" في برودواي في عام 1921م، ومن خلاله نشأ نموذج للشكل الذي ستكون عليه المسرحيات الموسيقية السوداء عبر الستين عامًا القادمة. 







لا شيء يحدث قبل الثانية صباحًا!


رسم إي. سيمس كامبل[2] خريطة للملاهي الليلية في هارلم، ضمت الخريطة حيين من هارلم من جادة لينوكس إلى الجادة السابعة، امتدت خلالها عشرات الملاهي الليلية التي قدمت موسيقى الجاز والتي مثلت روح الحياة الليلية في هارلم؛ تنوعت الطرق الدعائية لهذه الملاهي من كلوب هوت-شا الذي كان شعاره "لا شيء يحدث قبل الثانية صباحًا!" - تيليز المتخصص في الدجاج المقلي "وهو شهي فعلًا" - إذا ذهبت إلى ياه مان "إذهب متأخرًا" - "هناك إفطار راقص في الراديوم كل يوم أحد في الرابعة أو الخامسة صباحًا" - في نادي القطن، يقدم كاب كالاوي "أسرع رقصة نقرية في نيويورك" وعلى مقربة منه، يرقص إيرل تاكر أفخاذ الثعبان "تلك الرقصة الغريبة" - "إنك لم تسمع عزف بيانو بعد لو لم تستمع إلى غارلاند ويلسون في الثيتركال غريل". 


رغم أن الموسيقيين في هذه الملاهي كانوا من أشهر الموسيقيين السود أمثال ديوك إلينغتون، ألبرتا هنتر، جيمي لانسفورد، تشيك ويب، لويس أرمسترونغ، كونت باسي، فاتس والر، ويلي براينت، إلا أنه لم يكن يسمح للجمهور الأسود بالدخول لأنها كانت فترة الفصل العنصري؛ تغير الحال قليلًا حين بدأ بعض هؤلاء الموسيقيين بالمطالبة بالسماح للجمهور الأسود بالحضور خلال فقراتهم؛ أدت مطالبات ديوك إلينغتون المتواصلة للمالك الأبيض لنادي القطن بالسماح للسود بالجلوس في الطاولات الخلفية للملهى؛ سخر البعض من هذا الأمر، في حين اعتبره آخرين علامة على أن الموسيقى السوداء بدأت تحظى بجمهور أكبر، وهو ما كان حقيقيًا بشكل كبير لأن موسيقى الجاز لم ينحصر انتشارها لاحقًا على الولايات المتحدة فحسب بل أحدثت ضجة كبيرة في جميع أنحاء العالم. 









وداعًا أيتها العشرينيات الهادرة


خلال ذروة الحركة، كانت هارلم مركز الثقافة الأمريكية. كان الحي يعج بالدور والصحف التي يملكها ويديرها الأمريكيون الأفارقة وشركات الموسيقى والمسارح والملاهي الليلية. ولكن ناقوس النهاية لنهضة هارلم دقّ مع نهاية عشرينيات القرن الماضي. حدث ذلك بسبب انهيار سوق الأوراق المالية عام 1929 الذي نتج عنه الكساد العظيم، مما أضر بالأعمال التجارية، الشركات ودور النشر المملوكة لأمريكيين أفارقة وقلل الدعم المالي للفنون المقدم من الرعاة والمؤسسات والمنظمات الفنية. كما أن أعمال الشغب التي حدثت في هارلم في وقت لاحق نتيجة لشائعة كان مفادها أن رجال الشرطة قتلوا بالتعذيب يافعًا أسودًا كان يسرق من متجر لم تجعل الأمور تتحسن بالتأكيد. 


ومع ذلك، كان تأثير نهضة هارلم على أمريكا لا يمحى. لفتت الحركة الانتباه إلى الأعمال العظيمة المتمثلة في الفنون الأفرو-أمريكية، والتي ألهمت وأثرت على أجيال كثيرة من المفكرين والفنانيين؛ نقلت النهضة الصورة الحقيقية لحياة الأمريكيين الأفارقة، هوياتهم وثقافتهم التي نشأت من هارلم إلى العالم بأسره، لتتحدى الصور النمطية العنصرية والمهينة لجنوب جيم كرو. كما أنها أعادت تعريف الطريقة التي تنظر بها بقية الأعراق الأخرى للأميركيين الأفارقة وغيرت إدراكهم لتجربة الأمريكيين الأفارقة بشكل جذري.


الأهم من ذلك، غرست نهضة هارلم في الأمريكيين الأفارقة في جميع أنحاء البلاد روحًا جديدة مليئة بالإرادة ومتحفزة لتقرير المصير، خلقت وعيًا اجتماعيًا جديدًا والتزامًا جديدًا بالنشاط السياسي، مما وفر أساسًا متينًا لحركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات. وبذلك، أثبتت صحة معتقدات مؤسسيها وقادتها مثل آلان لوك ولانغستون هيوز بأن الفن يمكن أن يكون وسيلة لتحسين وتقدم حياة الأمريكيين الأفارقة. 




مقاتلي الجحيم من هارلم


كان الجيش الأمريكي الذي حارب في فرنسا خلال الحرب العظمى هو أول من جلب موسيقى الجاز إلى البلد، كان ذلك عبر فوج المشاة رقم 369، الفوج الذي عرف أيضًا باسم مقاتلي الجحيم من هارلم، اشتهر الفوج بفرقة الجاز التابعة له والتي قادها جيمس ريس يوروب "جيم يوروب"، الذي كان نجمًا في مشهد الجاز في نيويورك، والذي أطلق عليه أوبي بلاك، الملحن وعازف البيانو، لقب مارتن لوثر كينغ الموسيقى. خلال عام 1910 نظم يوروب أوركسترا نادي كليف، وهو مجتمع للعازفين السود داخل صناعة الموسيقى، وقد حققت الأوركسترا حدثًا تاريخيًا مختلفًا حين عزفت في قاعة كارنيغي[3]، وبذلك صارت أول أوركسترا تعزف موسيقى الجاز في ذلك المكان على الإطلاق. عزفت أوركسترا نادي كليف موسيقى كتبها ملحنون سود فقط، أمثال هاري تي بيرلي وصمويل كوليردج تايلور؛ وعلى حد تعبير غونتر شولر، فإن يوروب "... اقتحم معقل المؤسسة البيضاء وجعل العديد من أعضاء النخبة الثقافية في نيويورك على دراية بموسيقى الزنوج لأول مرة". 


عرف يوروب بشخصيته الحادة وآرائه الصريحة وعدم رغبته بالرضوخ إلى الأشكال الموسيقية المحددة ومحاولاته الدائمة لخلق أسلوبه الموسيقي الخاص؛ وقد كان يرد دائمًا على منتقديه بالقول، "لقد طورنا نوعًا من الموسيقى المختلفة والمميزة، بغض النظر عما تعتقدونه، موسيقى تفسح المجال لعزف المقطوعات الفريدة لعرقنا ... لقد تحقق نجاحي ... عبر إدراك مزايا التمسك بموسيقى شعبي". كما قال لاحقًا، "نحن الملونون نملك موسيقانا، التي هي جزء منا. إنها نتاج أرواحنا؛ تم خلقها عبر معاناة ومآسي عرقنا".


لذلك وعندما قدم يوروب وفرقته عرضهم للجماهير العسكرية البريطانية والفرنسية والأمريكية وكذلك المدنيين الفرنسيين نجح الحفل بشكل كبير؛ يتذكر يوروب، "جن جنون الجمهور قبل أن نقدم المقطوعة الثانية حتى!". أدى الأمر إلى قيام أستوديوهات باثي بتسجيل أول ألبوم جاز يصدر في فرنسا وربما بأوروبا كلها مع مقاتلي الجحيم. 






التحق الكثير من موسيقيي الجاز بخطى يوروب التي قادته نحو باريس؛ للهرب من الفصل العنصري الظالم والقوانين الأمريكية التي تضطهد السود من جهة، ولأن العديد من القصص التي سمعوها كانت تعزز فكرة التسامح الفرنسي وغياب العنصرية من جهة أخرى. وجد الفنانون السود في فرنسا ملاذًا يسمح لهم بالتطور والعمل؛ تقول المغنية السوداء آدا سميث، "لقد عشت إثارة نهضة هارلم. لكن في باريس، كان الأمر أكثر روعة. كانت المدينة بأكملها تحتفل. كانت الحرب مروعة بالنسبة للفرنسيين، والآن بعد أن انتهت، أرادوا أن ينسوا كل شيء - كل ما تمنوه كان حفلة ورقص". افتتحت سميث ناديها الخاص، "بريكتوب"، في 66 شارع بيغال. استضاف المكان أفضل موسيقيي الجاز في العالم لمدة 15 عامًا. صارت سميث المفضلة لدى العديد من الأمريكيين السود الذين لجأوا إلى العاصمة بين الحربين العالميتين، وساعدت في إنجاح موسيقى الجاز في باريس.


أحد أهم الفنانين الذين استقروا في العاصمة الفرنسية كان عازف الكلارينيت سيدني بيشيت، الذي وصل إلى فرنسا عام 1925 للعب مع فرقة مراجعة الزنجي "Revue Nègre". أحب بيشيت باريس، وصار من مشاهير المدينة. قال، "كنت أقابل أربعة أو خمسة أشخاص أعرفهم كلما مشيت في الشارع، مواهب استثنائية. في الليل كان هناك دائمًا مغني أو موسيقي يذهبون لحضور حفله. لم أذهب إلى الفراش أبدًا قبل الساعة العاشرة صباحًا"، كان يتجول في شوارع مونمارتر وكثيرًا ما واجه مشكلة، فقد اشتهر بعصبيته. في إحدى الليالي، بعد العزف في بريكتوب، اندلع شجار بينه وبين عازف البيانو "ليتل مايك" ماكيندريك ولأنه كان مسلحًا وبسبب ازدياد حدة الأمور فقد جرح ماكيندريك وحكم عليه بالسجن لإحدى عشر شهرًا.






تطور مشهد الجاز في فرنسا، وتم افتتاح العديد من الملاهي الليلية - في شارع سانت جيرمان دي بري، الذي اعتُبر حينها المركز الجديد للحياة الليلية في باريس - مثل هوت كلوب دي فرانس - جمعية أسست لمحبي الجاز في عام 1932م - الذي نظم جولات عدة فنانيّ جاز حول فرنسا، وافتتحت ملاهٍ أخرى مثل لو فيو كولومبير و لو كلوب سان جيرمان - على الضفة اليسرى، كان أغلب الرواد من المثقفين الذين رأوا الجالية السوداء وموسيقى الجاز كأحد أشكال مقاومة الإمبريالية الأمريكية. افتتحت المغنية جولييت غريكو "لي تابو" تحت إحدى المقاهي في شارع دوفين، وسرعان ما أصبح لي تابو ملتقى لمحبي الجاز الفرنسيين، وكان من أشهر رواده المنتظمين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر. كان بوريس فيان وبوقه نجمي المكان. 


أطلق هوت كلوب دي فرانس مسابقة لأفضل موسيقي في فرنسا، ونظم جولات غنائية لفنانيين أمريكيين مثل ديوك إلينغتون وكولمان هوكينز وغيرهم. خلال الحرب العالمية الثانية، ومع المنع الذي فرض على موسيقى الجاز، استمر تطور هذا النوع الموسيقي وواصل الفنانيين عزفه في الملاهي السرية والأقبية البديعة؛ كما استمرت جهود القائمين على هوت كلوب دي فرانس في نقل التسجيلات التي صنعت في فرنسا الحرة إلى فرنسا المحتلة؛ يقول الملحن الفرنسي ميشيل ليغراند، "ذهبت إلى حفل لديزي غيليسبي في عام 1945. كان حفلًا استثنائيًا. تم حظر موسيقى الجاز خلال فترة الاحتلال، وفجأة، في إحدى الأمسيات، أحدثت فرقة البيبوب الاستثنائية هذه ثورة في طريقة فهمي للموسيقى. في الليل، بدأت التسكع في ملاهي سان جيرمان دي بري". 








* يتبع المقال الأسبوع القادم



[1] DuBois, W. E. B.; The Souls of Black Folks (1903). 

[2] إي. سيمس كامبل (بالإنجليزية: E. Simms Campbell)‏ رسام كارتون أمريكي، ولد في 2 يناير 1906 في سانت لويس في الولايات المتحدة، وتوفي في 27 يناير 1971 في وايت بلينس في الولايات المتحدة.

[3] قاعة كارنيغي هي قاعة للحفلات الموسيقية في وسط مانهاتن في مدينة نيويورك، ويقع عنوانها في 881 الجادة السابعة، وتحتل الجانب الشرقي من الجادة السابعة بين الشارع الغربي 56 والشارع الغرب 57، على بعد بنايتين جنوب سنترال بارك. تم تصميمها من قبل المهندس المعماري وليام بيرنت توتهيل وبنيت من قبل المحسن أندرو كارنيغي في عام 1891، وهي واحدة من أشهر الأماكن في العالم بما يخص للموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الشائعة. تضم قاعة كارنيجي أقسامها الخاصة بالبرمجة والتطوير والتسويق، وتقدم حوالي 250 عرضًا كل موسم. كما يتم تأجيرها إلى مختلف الفرق. كانت أوركسترا نيويورك تقيم بها حتى عام 1962، عندما انتقلت إلى أوركسترا قاعة لينكولن سنتر.




Comments