الطرائق المُرتجلة للإبداع: من نهضة هارلم إلى فرقة جاز القاهرة

3/3





"صن رع هو المَضمُون الجديد لموسيقى الجاز، الموسيقى السوداء، مرة أخرى تحدد الروحيّة نفسها. الحب في الفضاء الخارجي، العدم الخارجي، عالم مركزية الشمس، عندما تتحدث الملائكة عن الحب، العوالم الخارجية، لانهائية الكون، عن الأشياء السماوية، إلخ، والسعي الفاني، الإنسان يعرف الروحيّة ويرغب في التطور الذي هو المذهب المُتعقل. يتجه محتوى الموسيقى الجديدة نحو التغيير، يريد تغيير أشكاله من الجسدي والعقلي إلى الروحيّة إلى المستقبل الروحي".

صلاح رجب







هذه المرة نحو أفريقيا!


ربما كان انتقال هذا الكم من الموسيقيين والكتاب والفنانيين إلى فرنسا هو بوابتهم نحو إعادة تعريف انتماءاتهم، ففي أمريكا كان الفصل العنصري لا زال موجودًا، وبعد عيشهم لفترة في فرنسا اكتشفوا أن أسطورة عماء اللون الفرنسية ليست حقيقية تمامًا، لأنه وبرغم أن البلد عاملتهم بترحاب ومودة إلا أن تاريخها الاستعماري تبدى أمامهم بوضوح، فقد سافر هؤلاء الموسيقيون عبر القارة الأفريقية ورأوا الفظائع التي تعرضت لها الشعوب المستعمرة هناك.



بدأ توافد فناني الجاز الأمريكيين الأفارقة إلى مصر منذ عام 1921، كان أولهم الطيار الحربي وعازف الطبول الأمريكي يوجين بولارد، الذي انتقل بدءًا إلى فرنسا هاربًا من التمييز العنصري في الولايات المتحدة وتدرب على قيادة الطائرات الحربية ونفذ العديد من الطلعات الجوية الناجحة؛ استقر بولارد في الإسكندرية لستة أشهر وعزف مع فرقة في فندق كلاريدج. بعدها بعدة سنوات حذت الفنانة ألبرتا هنتر حذوه وأتت إلى القاهرة وأقامت عدة حفلات؛ استمر توافد فناني الجاز إلى القاهرة ومنهم بيل كولمان الذي استقر في القاهرة من عام 1939 إلى عام 1940؛ ومن ثّم عازف البوق إدريس سليمان وعازف البيانو أوسكار دينارد وعازف الغيتار جميل ناصر الذين أتوا إلى القاهرة في عام 1958، بعد أن سجلوا ألبومًا في إذاعة صوت أمريكا الحرة في طنجة، أقاموا بعض الحفلات هناك، قبل أن يصاب دينارد بمرض التيفوئيد وتوافيه المنية ويدفن في مقابر زين العابدين بالقاهرة. بعدها أتى عازف الساكسفون عثمان كريم، الذي سجل أغنية بعنوان "يعيش ناصر"، وكون رباعي القاهرة لموسيقى الجاز وتعاون مع صلاح رجب وكانا يقدمان عروضًا في كايرو جاز كومبو. يمكننا القول أن مصر كانت نقطة مركزية في رحلات فناني الجاز عبر القارة والفنانين الذين قرروا الاتجاه شرقًا بعد وصولهم إلى باريس؛ دعم بعض هؤلاء الفنانين الحكومة المصرية بشكل صريح في صراعها مع الإمبريالية الأمريكية وسعيها في التمسك بمبدأ عدم الإنحياز لأي من القوتين العظمتين اللتين حاولا تنازع الدول المستقلة حديثًا من خلال النفوذ الاقتصادي والحروب الثقافية وغيرها، وقام بعض الفنانين بإنتاج مؤلفات تُكرم أفريقيا والتضامن الأفرو-آسيوي. 










الجامباسدورز في كل مكان! 


كان مشهد الجاز المتنامي والمنتشر خارج الولايات المتحدة وقتها جزءًا من الدبلوماسية الثقافية والمساعي المتنامية للولايات المتحدة لمحاربة الدعاية السوفياتية خلال الحرب الباردة، نشر الثقافة الأمريكية واكتساب مزيد من الحلفاء؛ ومن ناحية أخرى إخماد الادعاءات التي تقول بأن أمريكا لا زالت ذلك المكان العنصري الذي يقمع السود و يضطهدهم، لأن فناني الجاز الذين كانوا يبعثون في تلك الرحلات لإقامة الحفلات كانوا في الأغلب من الفنانيين السود مثل لويس أرمسترونغ وديزي غيليسبي وغيرهم. لكن في الحقيقة ورغم أن تلك الدبلوماسية الثقافية حاولت إبراز فكرة التسامح الأمريكية إلا أن الوضع في الولايات المتحدة كان مشتعلًا مع تنامي الاحتجاجات، فقد تصدرت قضايا مثل قتل إيميت تيل وبراون ضد مجلس التعليم عناوين الأخبار في كل مكان في العالم؛ يذكر هشام عايدي في كتاب موسيقى التمرد، "تم بث صور قتل إيميت تيل في عام 1955م، ورد الفعل العنيف على براون ضد مجلس التعليم قبل عام في جميع أنحاء العالم، وبدأ الرئيس دوايت إيزنهاور، الذي كان راضيًا عن الحقوق المدنية، في رؤية ذلك على الصعيد الدولي، وفهم أن العرق كان كعب أخيل أمريكا. بدأت وزارة الخارجية تنظم جولات موسيقى الجاز رفيعة المستوى لتغيير الانطباعات. كانت الجولات من بنات أفكار عضو الكونغرس الديمقراطي من هارلم آدم كلايتون باول، الذي تصور موسيقى الجاز كسلاح حرب باردة، بعد حضوره المؤتمر الأفرو-آسيوي للدول غير المنحازة عام 1955م في باندونغ بإندونيسيا. صعق باول بخطاب ممثلي دول العالم الثالث الذي سمعه، وزعمهم أن الاتحاد السوفياتي كان أكثر تقدمية في مسألة العرق من الولايات المتحدة. لدى عودته، اقترح على وزارة الخارجية أن يتم إرسال الفرق التي يقودها ديزي غيلسبي، كونت باسي ولويس أرمسترونغ، إلى الخارج لتحسين صورة أمريكا. وكما قال باول لأيزنهاور، "لوجه أسود من الولايات المتحدة قيمة تساوي ملايين الدولارات في المساعدات الاقتصادية".






من بين فنانيّ الجاز الذين أتوا إلى مصر في رحلات الجامباسدورز تلك لويس أرمسترونغ الذي أحيا حفلًا ناجحًا جدًا عام 1961 في سينما ريفولي، وراندي ويستون الذي أثار ردود فعل قوية بين الجمهور في حفله الموسيقي في القاهرة ، مصر ، خلال جولته التي نظمتها وزارة الخارجية الأمريكية والتي شملت أربعة عشر دولة. يقول ويستون، "كانت الحفلة الموسيقية التي عزفناها هناك صاخبة"، يتذكر الإيقاعات الأفريقية. "ربما كان أقوى أداء في الجولة كلها. عزفنا "كتاب الطبخ الأفريقي" لإنهاء الحفل ... كانت المشاعر من الشعب المصري قوية جدًا في ذلك المسرح لدرجة أنه في مرحلة معينة عندما بدأ [عضو الفرقة] شيف باي بعزف الطبل منفردًا ... بدأ الجمهور في الانخراط بشدة في الإيقاع عبر التصفيق القوي. كانوا في الواقع يعيدون إيقاعاتنا إلينا، كما لو أنهم يخبروننا، "نحن نعرف هذا الإيقاع ، هذا إيقاعنا". كذلك فقد أحيت كل من ميريام ماكيبا ونينا سيمون حفلات في القاهرة. 









صلاح رجب وفرقة جاز القاهرة


كان صلاح رجب رائدًا في الجيش المصري، ومؤسس فرقة جاز القاهرة. كان رجب مفتونًا بالجاز وكانت محاولته الأولى هي تكوين فرقة مع ماك إكس سبيرز، عازف الساكسفون؛ تعرف الاثنان بعد عودة رجب من رحلته في أمريكا لتعلم العزف على الطبول، بينما كان سبيرز مستقرًا وقتها في القاهرة يقدم دروس موسيقى ويدرس الإسلام في جامعة الأزهر؛ حاول سبيرز تكوين فرقة لعزف موسيقى الجاز وكان يبحث عن عازف طبول وقد رشح له أحد الأصدقاء صلاح رجب ومن حينها صارا صديقين؛ تعلم رجب عن موسيقى الجاز وأتقن عزفها على يد سبيرز؛ بدأ سبيرز ورجب يقدمان عروضًا في القاهرة، وفي عام 1964 اتفقا على تكوين فرقة ولكن الأخير عاد إلى الولايات المتحدة بعد التأميم، وقبل أن يتمكنا من تكوينها؛ لاحقًا إلتقى رجب بهرتموت غريكن وإدوارد فيفزاري في حفل استقبال لراندي ويستون بالقاهرة عام 1966 واتفق ثلاثتهم على تكوين فرقة جاز القاهرة، حينها كان رجب يترأس قسم الموسيقى العسكرية في الجيش المصري وتحت إمرته ما يقارب الثلاثة آلاف عازف، وقرر اختيار بعضهم للانضمام للفرقة ووقع اختياره على خمسة وعشرين فردًا وكانت تلك نقطة انطلاق فرقة جاز القاهرة.




تعاون رجب وغريكن وفيفزاري على تدريب العازفين على الآلات المختلفة، ومن ثم تعليمهم كيفية عزف موسيقى الجاز بشكل متقن؛ يقول غريكن، "كان الموسيقيون قادرين على القراءة بطلاقة، ولكن كما كان مناسبًا للموسيقي العسكري العادي، لم يكن بإمكانهم عزف أي شيء سوى المسيرات والأناشيد الوطنية. لم يسمع الكثير منهم عن موسيقى الجاز، وأتذكر عقد ما كان بمثابة دورات تدريبية مكثفة في تاريخ موسيقى الجاز بناءً على طلب صلاح في البداية. بينما كان صلاح يهتم بالموسيقيين والآلات الموسيقية، انشغلت أنا وإدوارد بالبروفات والترتيبات حيث كان لديه خبرة كبيرة في كونه أستاذًا للموسيقى، حصلت على الـ "عشرات" من مؤلفات موسيقى الجاز من ألمانيا من ألبرت مانغيلسدورف، فولفغانغ دونر، بيتر هيربولزهايمر، بيرند رابي، جوكي فرويند وآخرون. ربما كنت أنا وإدوارد الأوروبيين الوحيدين الذين يتمتعون بحرية الوصول إلى ثكنة مصرية في تلك الأوقات خلال الحرب. في ذلك المكان الذي حجز صلاح مبنى كاملًا للفرقة ولموسيقى الجاز. وضعت على الباب لافتة نحاسية تعلن بفخر "بيت الجاز". الموسيقيون الـخمسة وعشرون المختارون أو نحو ذلك لم يكن عليهم أي التزام آخر من الصباح إلى المساء سوى تكريس أنفسهم لموسيقى الجاز. بحلول الوقت الذي غادرت فيه مصر عام 1972، لم يكن أي من الموسيقيين يرغب في عزف أي شيء مرتبط بالمسيرات والأناشيد الوطنية. أتذكر بروفة معينة في أحد استوديوهات راديو القاهرة عندما، وقف شاب في الباب المفتوح، كان يهز رأسه ويقرع بقدميه على الإيقاع الموسيقي. كان هذا الشاب الملك حسين الذي تصادف وجوده في إحدى الاستوديوهات المجاورة وسمعنا نعزف. لم يعرف أحد منا في ذلك الوقت أنه معجب كبير بموسيقى الجاز". كانت فرقة جاز القاهرة أول فرقة جاز مصرية تمزج موسيقى الجاز الأمريكية مع الموسيقى العربية، وتجمع بين آلات الجاز والأسلوب الموسيقي مع الألحان والآلات الأصلية، مثل الطبلة والناي. 






كان الظهور الأول لفرقة جاز القاهرة في قاعة إيوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية في فبراير 1969، وشمل العرض مؤلفات لرجب وغريكن بالإضافة إلى عزف أعمال مشاهير الجاز الأمريكيين أمثال نات أديرلي وديزي غيليسبي وكونت باسي وغيرهم. أقامت الفرقة لاحقًا العديد من الحفلات الموسيقية الأخرى في أماكن مختلفة مثل دار الأوبرا القديمة وجامعة الإسكندرية كما كانت تظهر على التلفزيون المصري في برنامج نادي الجاز الأسبوعي. استقطبت الفرقة جماهير كبيرة في الإسكندرية والقاهرة، وسجلوا في أوائل السبعينيات مقطوعات ألفها رجب مثل "المزاج الشرقي" و"موضوع الوداع" التي كانت تكريمًا لجمال عبد الناصر. 1973. تفككت فرقة جاز القاهرة في عام 1973 وتقاعد رجب من الجيش وبدأ رحلة جديدة مع أركسترا صن رع التي إنضم إليها وشارك في جولاتها الأوروبية.







التجسد الجديد للروحيّ




ولد رائد موسيقى الجاز الأمريكي الأسطوري والصوفي والشاعر والفيلسوف هيرمان بول بلونت عام 1914، لكنه غير اسمه إلى صن رع بعد رؤية قادته إلى الاعتقاد بأنه جاء من كوكب زحل. بعدها صار صن رع مفتونًا بكل ما يتعلق بالفضاء الخارجي ومصر القديمة، وكان دمج اسم إله الشمس الفرعوني رع في اسمه أول دعواته العديدة لثقافة مصر القديمة ومعتقداتها. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي وعندما صار السفر إلى القمر ممكنًا، فُتن صن رع بالفكرة لدرجة كبيرة وكان يتحدث عنها طوال الوقت لدرجة أن الموسيقيين كانوا يسمونه "رجل القمر"؛ بينما كان من المقرر أن تنطلق رحلة أبولو 11 نحو القمر في صيف عام 1969، طلبت مجلة "إسكوير" من العديد من الفنانين والمشاهير الشخصيات اقتراحات للكلمات الأولى على القمر، وقام صن رع بكتابة قصيدة شغوفة ردًا على سؤال الصحيفة تضمنت كلماتها: 


لقد لامس الواقع الأسطورة 

يمكن للإنسانية التحرك لتحقيق المستحيل 

لأنك حين تحقق مستحيلًا، 

فإن المستحيلات الأخرى تأتي لتكون مع أخيها، 

المستحيل الأول

تقترض من حافة الأسطورة 

عصر الفضاء السعيد لك…






جاء صن رع مع الأركسترا الخاصة به إلى مصر في ديسمبر، عام 1971 بدعوة من غريكن، وأقام عدة حفلات تضمنت حفلة تحت سفح الهرم وجلسة في غرفة معيشة المضيف؛ التقى رجب بصن رع خلال الزيارة الأولى تلك، عندما عاد صن رع في مايو 1983، انضم رجب إلى الأركسترا على الطبول والكونغا وسجل مؤلفات بعنوان "تبختر مصر" و "الفجر". عادت أركسترا صن رع في العام المقبل، وشارك رجب في عرضهم في إل كابو جاز كلوب ورافق الفرقة الكبيرة في جولة في مصر واليونان وفرنسا وإسبانيا عام 1984. العرض الحي في مهرجان براكسيس في أثينا، في فبراير 1984، مطبوع في ثلاثة تسجيلات. يمكن القول، إنه أحد أفضل الحفلات الموسيقية الاستثنائية لأركسترا صن رع، وجن جنون الجمهور اليوناني.



















Comments